كتب – هاني رياض :
نقد الاتجاهات السائدة فى مسألة علاقة الكتابة المسمارية بالهيروغليفية
شكلت حضارة بلاد الرافدين والحضارة المصرية القديمة أهم الروافد الإنسانية الحضارية فى مسيرة البشرية فى العالم القديم حتى بعد بزوغ الحضارة اليونانية والرومانية وتشكيلها وجه العالم الجديد وحضارته الأوروبية التى نمت من رحم تلك البلدين “العراق – مصر” اللتان أنجبتا أعظم حضارتين أنارتا العالم منذ آلاف السنين قبل الميلاد.
يدور الحديث بين المتخصصين والكتاب جدلاً واسعاً حول أسبقية إحدى الحضارتين المصرية والرافدية عن الأخرى، وبالتالي اي من تلك الحضارتين قامت بتشكيل أو التأثير فى بناء الحضارة الاخرى؟.. وهو سؤال يستهوي غير المتخصصين الذين يتسابقون بنزعاتهم وأهوائهم الشخصية فى سرد أفضلية تلك الحضارة عن الأخرى بعيداً عن فهم طبيعة تلك الحضارتين، والأسس المشتركة بينهما باعتبارهما حضارات زراعية أو نهرية واحدة، قامتا فى سياق تاريخي متقارب قد شكل ملامحهما من ناحية، ومن ناحية أخرى ذلك التسابق القائم على الأهواء الشخصية بعيداً كل البعد عن المنهج التاريخي والعلمي الذي يرى أن العلاقات بين الدول والحضارات، وعلى رأسها العلاقات الثقافية تحديداً هي علاقة تبادلية بين طرفين، وبالتالي تأثيرهما الحضاري والثقافي هو تأثير متبادل يتقاطع ويتشابه أحياناً، ويتوازى ويختلف أحيان أخرى.. وهو الهدف الرئيس لهذا المقال الذي يرصد التأثيرات الثقافية بين حضارتي “وادي النيل” و”الرافدين”، ولاسيما فى نشأة اللغة، وتطورها، وطرق كتابتها “المسمارية فى الرافدين والهيروغليفية فى مصر”، فى كل من تلك الحضارتين العظيمتين.
علاقة الخط المسماري بالهيروغليفي..
من القضايا الشائكة والمعقدة فى طبيعة التأثيرات الثقافية لحضارة “بلاد الرافدين”، تلك الخاصة بمسألة الكتابة السومرية “المسمارية” وعلاقتها بنشأة وتطور الخط “الهيروغليفي” فى مصر، فقد ذهب العديد من الباحثين والكتاب العراقيين إلى أن الكتابة السومرية “المسمارية” قد انتقلت إلى “وادى النيل”، ونتج عنها الكتابة “الهيروغليفية”، على الرغم من أن مقولة عالم الآثار “صموئيل كريمر” التى يستشهد بها العديد من الكتاب والباحثين العراقيين فى إثبات رأيهم أو افتراضهم لا تقطع بهذه النتيجة بل “تُجهل” العلاقة بين الخطين.. فقد قال كريمر: “لا نعلم بالضبط صلة الخط المسماري بالخط الهيروغليفي من ناحية الأصل، ولكن يرى بعض الباحثين اخذ الحافز من الخط المسماري فى نشأة الخط الهيروغليفي”.
على الرغم من مقولة “كريمر” التي تقرر عدم معرفة علماء الآثار بعلاقة الخط المسماري بنظيره الهيروغليفي، إلا أن العديد من الباحثين والكتاب العراقيين يميلون إلى الاستنتاج المتسرع الذى لا يعتمد على تحليل أو فهم لطبيعة الجدل فى نمو وتبادل المنجزات الحضارية، وتأثيرها فى الوعي الثقافي للشعوب إلى القول: “أبانت الدراسات والكشوف والبحوث العلمية في أواسط القرن الماضي أن كافة منجزات الحضارة السومرية من الفنون والعمارة والنحت والكتابة وغيرها نقلت إلى بلاد النيل بشكل كامل.. الأمر الذي أعتبر الأساس الذي بنيت عليه هذه الحضارة”.. وهو ليس فقط تعميم وتسطيح مهين للحضارة المصرية التي نشأت ونمت في وادي النيل، وأثمرت العديد من المنجزات الحضارية والعلمية التي أثرت في جميع الحضارات المتعاقبة، بل ويغفل عن طبيعة التأثيرات الثقافية المتبادلة بين الحضارتين.
والحكم على علاقة الكتابة المسمارية بنظيرتها الهيروغليفية يستلزم معرفتنا أولاً بالتطور الاجتماعي والسياسي فى كل حضارة، ونشأة الكتابة، ومراحل تطورها وفقاً للبيئة، والمؤثرات الجغرافية التي شكلتها، وأخيراً شكل وحجم المؤثرات الخارجية والاحتكاكات “الإقليمية” التي تفاعلت معها الكتابة.
نشأة الكتابة ومراحل تطورها..
يشكل اختراع الكتابة وإدخالها في الحياة اليومية أهم حدث في التاريخ الفكري للبشر.. فهو الحد الذي يفصل بين مرحلة ما قبل التاريخ والمراحل التاريخية اللاحقة، فقد ساعد اختراع الكتابة على تدوين اللغات القديمة التي دلت على وجود الشعوب وحضاراتها، وتفاصيل حياتهم اليومية التي عاشت منذ آلاف السنين، وقد ساعدت جهود العلماء والمختصين باللغات فى القرن الـ19 على فك رموز الكتابات القديمة، واستطاعت اثبات وجود السومريين الذين لم يكن هناك أي دليل على وجودهم قبل اكتشاف المسمارية، بعكس اللغة المصرية القديمة التي دونت ورصدت جميع انجازات المصريين القدماء.
الكتابة الهيروغليفية..
كتبت اللغة المصرية القديمة بخطوط أربعة هي: “الهيروغليفية، والهيراطيقية، والديموطيقية، والقبطية”، وهى شكل في الكتابة مثل الخط “الرقعة والنسخ” في اللغة العربية. أقدم هذه الخطوط الأربعة هي “الهيروغليفية”، وقد استخدمت صور لترمز إلى أصوات أولية للكلمات، وقد استوحى المصري القديم تلك الصور من الموجودات الشائعة في البيئة المصرية في ذلك الوقت، من نبات وحيوان وأعضائها ومن الإنسان وأعضائه ومن مصنوعاته وغيرها، بالإضافة إلى كتابات هيروغليفية من الأسرة (0)، والأسرة (00) قبل نشأة الأسرة الأولى فى عام 3200 ق. م، وقبلها حضارات ما قبل التاريخ، وأهمها حضارة “مرمدة” وترجع إلى 5100 ق. م، وحضارة “دير تاسا” من 4800 ق. م، وحضارة “البداري” 4500 ق. م، وغيرها من الحضارات التي بدأت قبل عصر التوحيد ونشأة الدولة المصرية الموحدة على يد الملك “مينا”.
ومن المعروف أن كلمة “الهيروغليفية” ترجع إلى اليونانية حيث تعني “النقش المقدس”، أما في المصرية القديمة هي “ميدو انترو” أي “العلامات الروحانية”، وتتكون من مجموعة من النقوش والعلامات التي تصور الحياة اليومية للمصريين طوال الدولة المصرية القديمة والوسيطة، وهي لا تحمل أبجدية محددة كما باقي اللغات المعروفة الآن. وقد انتقلت اللغة المصرية من الخط “الهيروغليفي” إلى “الديموطيقي” ثم “القبطي” وفقاً للتطور الذي حدث على طبيعة مادة الكتابة، وآداة الكتابة نفسها من النقش والحفر على الحجر، إلى الكتابة على الشقافات إلى ورق البردي، بالإضافة إلى تعقد الحياة اليومية للمصريين التي تطلبت خطوط اكثر تبسيطاً حيث مجهود أقل وسرعة في التدوين أكثر.
طريقة كتابة الخط الهيروغليفي كما هو اللغة العربية والعبرية من اليمين لليسار، وهي طريقة كتابة معظم النصوص المصرية القديمة الهامة، ما عدا النصوص التي تتطلبت تغير اتجاهها وتكتب من اليسار لليمين وذلك لتتلائم واتجاه مع منظر معين أو لدواعي جمالية وتنسيقية في النص وهي استثناء في الكتابة، وأحياناً أخرى تكتب من أعلى لأسفل مثلما كتبت نصوص الأهرام، ولتحديد ومعرفة اتجاه الكتابة يجب النظر إلى صور العلامات الموجود في النص المكتوب مثل “البومة أو النسر” أو أى علامة أخرى، فإذا كانت العلامة تنظر إلى اليمين فإن اتجاه الكتابة يكون من اليمين إلى اليسار، أما إذا كانت تنظر إلى اليسار فيصبح اتجاه الكتابة من اليسار لليمين.
الكتابة المسمارية..
هي نوع من الكتابة تنقش فوق ألواح الطين والحجر والشمع والمعادن وغيرها، وهذه الطريقة في الكتابة كانت متداولة لدى الشعوب القديمة بجنوب غرب آسيا، وكانت هذه الكتابة تسبق ظهور الأبجدية بأكثر من 1500 عام، ويُرجع العلماء أقدم نصوص الكتابة المسمارية إلى عام 3000 ق. م تقريباً، حيث أن بداية اللغة السومرية إلى بداية الألف الرابعة قبل الميلاد، وتنقسم إلى خمسة مراحل أقدمها هى المرحلة العتيقة أو المبكرة 3100 – 2600 ق. م، والسومرية القديمة منذ 2600 – 2150 ق.م، والسومرية الحديثة 2150 – 2000 ق.م، والسومرية المتأخرة 2000 – 1700 ق.م، واخيراً السومرية اللاحقة 1700 – 100 ق. م، وهكذا استمرت اللغة السومرية فى بلاد الرافدين من 3100 ق. م حتى استبدلت منذ حوالي 2000 ق.م إلى “اللغة الأكدية”، وهي إحدى اللغات السامية.
لعب السومريين جنوب بلاد الرافدين دوراً هاماً في التحول الثقافي المتطور، وتحديداً في الأعمال الاقتصادية والمراسيم الحكومية، فقد استخدمت الكتابة المسمارية في تدوين كل المعاملات الاقتصادية والشخصية سواء كانت للملوك والأمراء، وكذلك الأحوال الشخصية والتجارية لعامة الشعب، وأيضاً دونت بها الآداب والأساطير والشؤون الدينية والعبادات، أبرز هذه الاستخدامات هي تدوين شريعة “حمورابي” 1738 – 1686 التي دونت بالكتابة المسمارية.
مرت الكتابة المسمارية بثلاث مراحل زمنية حتى اكتملت طريقة الكتابة المسمارية وأهمها:
“المرحلة التصويرية”.. وهي أولى مراحل تطور الكتابة في بلاد الرافدين وقد تم التعرف على هذه المرحلة من خلال اكتشاف أكثر من 5000 رقيم طيني من دور “الوركاء”، وعثر على قسم منها في كل من “تل العقير”، و”جمدة نصر”، و”خفاجي”، و”أور”، و”شروباك” و”كيش”، وعرفت العلامات المدونة على هذه الرقُم بالعلامات التصويرية لأنها تصور كل الكتابة بشكل تصويري أو تقريبي، إذ كانت العلامة الواحدة تعبر عن كلمة معينة أو فكرة معينة من المظاهر الطبيعية، حيث كل رمز في هذه الكتابة له معنى، وكل رمز من الرموز مستوحى من المظاهر الطبيعية.
“المرحلة الرمزية “.. ونشأت مع تعقد الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فقد أصبحت الطريقة التصورية لا تعبر عن تطور اللغة الحادث بسبب تعقد الحياة اليومية، مما أستدعى ابتكار طريقة جديدة لمسايرة هذا التطور فتم ابتكار الطريقة الرمزية، فقد لجأوا الى إعطاء الأفعال، والصفات، والأفكار بعض الرموز، وعلى الرغم من هذا التطور في طريقة الكتابة من التصويرية إلى الرمزية، إلا أنها ظلت قاصرة على التعبير عن اللغة السومرية وتعقيدها، ولذلك تم ابتكار “الطريقة الصوتية” في الكتابة، وهي أهم المراحل التي مرت بها الكتابة المسمارية وأكثرها تعقيداً وتطوراً.
بلا شك هناك العديد من القواسم الحضارية والثقافية المشتركة بين حضارت الشرق الآدنى القديم، وأن التأثيرات بين الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين تأثيرات متبادلة بسبب الاحتكاك التجاري بين البلدين من خلال طريق “برزخ السويس”، كما يقوم “وول ديورانت” فى موسوعته “قصة الحضارة ج 1″، الأمر الذي أدى إلى حدوث تأثيرات ثقافية وحضارية متبادلة بين الدولتين، خاصة فى حضارات ما قبل التاريخ كما يشير الدكتور “عبد العزيز صالح ” فى كتابه عن “حضارة مصر وآثارها ج 1″، فنجد تأثر بلاد الرافدين في بناء معابدها على نمط “الهرم المدرج” فى مصر، عن بلاد الرافدين أخذت مصر استخدام الأختام، وفن رسم الحيوانات المجنحة.
كما عرفت مصر الكتابة المسمارية في فترة حكم الملك “أخناتون” في مدينة “تل العمارنة” 1370 ق. م – 1350 ق. م، وعرفت بـ”رسائل تل العمارنة”، وهي الرسائل التي بعثها أمراء سورية، وأمراء “جبيل”، و”بيبلوس”، و”صور”، و”صيدا”، و”قطنا” و”القدس” إلى الملك “أخناتون”، أو إلى أبيه الملك “أمنحتب الثالث”، وقد بلغ عددها 377 رسالة، منها 6 رسائل من ملك بابل، و9 رسائل من ملك “الازبا”، وهي مملكة قديمة كانت تقع في المنطقة الشمالية بين الساحل ونهر “اورونت”، نهر العاص الآن، و6 رسائل من أحد حكام سوريا يسمى “ريبدى”، ونحو 100 رسالة من حاكم أورشليم، القدس الآن، ويدعى “ارادهيبا”، وحاكم لمدينة في ىسوريا يدعى “ايزرو”، وغيرهم من حكام سوريا وفلسطين.
ولكن كما أشرنا سابقاً أن اللغة المصرية القديمة وطرق كتابتها “الهيروغليفية المقدسة” نشأت فى حضن البيئة الجغرافية الطبيعية لمصر فى الألف الخامسة قبل الميلاد، وقد تطورت وفقاً لتعقد وتطور الحياة اليومية للمصريين القدماء، كما كانت الكتابة المسمارية وليدة حضارة بلاد الرافدين وتحديداً الحضارة السومرية بخصوصيتها وتطورها الزمني الذي لايتجاوز بداية الألف الرابعة قبل الميلاد وتحديداً 3100 عام قبل الميلاد وفقاً لتقديرات العلماء والمتخصصين فى تاريخ بلاد الرافدين.