الإستراتيجية الأميركية الجديدة تأخذ في الاعتبار مصالح روسيا في سوريا، من أجل الاستمرار في توظيف الدور الروسي فيها بالوكالة، كما تأخذ في الاعتبار تحجيم نفوذ إيران وإعادتها إلى وراء حدودها.
تؤكد عديد المعطيات أن ثمة تغيّرات في الإستراتيجية الأميركية إزاء سوريا، بحسب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأركان إدارته، من وزير الخارجية ريكس تيرلسون ووزير الدفاع جايمس ماتيس ومستشار الأمن القومي هربرت ريموند ماكماستر وسفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هايلي. أما محاور هذه الإستراتيجية فتتمثل في الآتي: أولاً، مواجهة جماعات الإرهاب، وخاصة تنظيم داعش في سوريا والعراق. ثانيا، تحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا. ثالثا، إنهاء القتال في سوريا وتحقيق الاستقرار في هذا البلد، على أساس التغيير السياسي، الذي يتضمن إنهاء حكم عائلة الأسد.
بيد أن ما ينبغي إدراكه هو أن الحديث عن إستراتيجية أميركية جديدة لا يتلاءم مع حقيقة الأمر، بمعنى أنه ثمة استمرار للإستراتيجية القديمة، وثمة ما هو جديد، والأهم من هذا وذاك أن ما يحدث هو تفعيل للدور الأميركي في المنطقة، بعد أن كانت الولايات المتحدة تكتفي بدور الشاهد، أو بإعطاء الوكالات لهذا الطرف أو ذاك للتدخل في هذا البلد، بطريقة أو بأخرى، ينطبق ذلك على روسيا وغيرها.
مثلاً، فإن الإدارة السابقة كانت منخرطة في الحرب على الإرهاب وفي تحجيم نفوذ إيران، وفي السعي للتغيير السياسي في سوريا، لذا فإن الجديد حقا هو أننا إزاء إدارة أميركية تشتغل على نحو آخر، أي بطريقة التدخل المباشر، وعبر تعزيز دورها إن على مستوى الصراع العسكري على الأرض، وهو ما تمثل بقصفها مطار الشعيرات (قرب حمص)، ردا على استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي في خان شيخون (مطلع هذا الشهر)، أو من خلال إدارة عجلة الحل السياسي، لوضع نظام بشار الأسد أمام حقيقة انتهاء صلاحيته، وانتهاء زمن السماح له بالاستمرار، وهذا ما تم توضيحه في التسريبات عن خطة أميركية من أربع مراحل، تقوم أولا على محاربة الإرهاب. وثانيا وقف الصراع المسلح وإيجاد مناطق آمنة. وثالثا إيجاد حل انتقالي يرحل في نهايته بشار الأسد (بالتفاهمات أو بالقوة)، ورابعا تنظيم الأوضاع والشروع في إعادة البناء في سوريا.
أيضاً، ثمة مسألتان يجدر إدراكهما في الحديث عن السياسة الخارجية الأميركية، في الشرق الأوسط أو في أماكن أخرى، أولاهما، أن هـذه السياسة لا يحـددها الرئيس لوحـده، إذ يشـاركه فيها صنّاع القرار في الولايات المتحدة، وهم هنا يتمثلـون في “المؤسّسة” التي تشمـل النافـذين في وزارة الخارجية والدفـاع والأمـن القومي، كما يتمثلون في جماعات الضغط المعنية “اللوبيات”، والشركات الكبرى.
أي أن السياسة التي انتهجها الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كانت تتناسب ومصالح وتوجهات صانع القرار الأميركي، وأنّ هذه المصالح قد تبقى على حالها أو قد تتغّير، سواء بقي الرئيس المعني أو حل رئيس أخر محله، كما في الحالة الأميركية الآن. أما المسألة الثانية، فهي تتعلق بأن الإستراتيجية التي يصوغها صناع القرار الأميركيون قد تتغير في حال استنفدت أغراضها، أي في حال حققت أهدافها، أو في حال ثبت إخفاقها، فهكذا تعمل السياسة التي تشتغل على قاعدة المصالح والجدوى.
الواقع هنا، وبغض النظر عن رأينا، فإن الولايات المتحدة نجحت، عبر الإستراتيجية التي انتهجتها في عهد أوباما، في تحقيق مكاسب كبيرة لها من دون أن تخسر جنديا، ولا حتى فلسا واحـدا، إذ تمكّنت من استدراج أو توريط القوى المناكفة لها في المنطقة، وتحديدا روسيا وإيران وتركيا، في الصراع السـوري، بل ووضعتهم في مـواجهة بعضهم بعضا.
كما أنها استطاعت عبر تلك الإستراتيجية إفقاد إيران قوتها، وكشـف تغطيها بالقضية الفلسطينية، وفضح مكانتها كدولة دينية ومذهبية وطائفية في المنطقة، بعد أن استنفذت دورها في تقويض وحدة مجتمعات المشرق العربي، وإثـارة النـزعة الطائفية المـذهبية بين السنّة والشيعة، إذ لم يعد أحد ينظر لإيران باعتبارها دولة مناهضة لإسرائيل أو كدولة يجدر الاحتذاء بها. وفوق هذين فقد نجحت الولايات المتحدة في تأمين بيئة إقليمية آمنة لإسرائيل لعقود من الزمن، بعد التفكّك والخـراب الدولتي والمجتمعي في أهـم دولتين في المشرق العربي، أي في سوريا والعراق.
هكذا، فما حصل مع مجيء إدارة ترامب أن الإستراتيجية السابقة أتت أكلها، من وجهة نظر الإستراتيجيين الأميركيين، وأنه بات يمكن الآن التدخل بشكل أكثر فعالية لاستثمار ما حققته الإستراتيجية السابقة، بعد أن تم إنهاك روسيا وإيران وتركيا.
طبعا، الإستراتيجية الجديدة تأخذ في الاعتبار مصالح روسيا في سوريا، من أجل الاستمرار في توظيف الدور الروسي فيها بالوكالة، كما تأخذ في الاعتبار تحجيم نفوذ إيران، وإعادتها إلى وراء حدودها، وضمن ذلك تحجيم دور ميليشياتها المسلحة في العراق ولبنان وسوريا، إن لم يكن التخلص منها، والنظر إليها كدولة ذات صلة وثيقة بالإرهاب.
وفي خضم كل ذلك بديهي أن تبدو إسرائيل في غاية الارتياح، سواء في الإستراتيجية القديمة أو الجديدة، ففي الحالين هي الفائز الأكبر، من استمرار الصراع المسلح والمدمّر في العراق وسوريا، كما من تحجيم النفوذ الإيراني، وبخاصة في شأن نزع السلاح النووي والكيماوي (في إيران وسوريا)، وهذا ما بدا واضحا من حماس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للسياسة الأميركية والتي عبّر عنها لدى استقباله وزير الدفاع الأميركي جايمس ماتيس في إسرائيل مؤخراً.
خلاصة هذا ما فعلته إيران وإسرائيل بنا، وهذا نتاج غياب وتخلّف وتشتّت النظام العربي.
نقلا عن العرب