23 نوفمبر، 2024 2:10 م
Search
Close this search box.

عوالم الخلل في مجتمعنا العربي

عوالم الخلل في مجتمعنا العربي

الفكر في حياة الشعوب ركيزة هامة، فهو الدليل على حيويتها وتقدمها او على جمودها وتخلفها. وفي ميدان الفكر تحسم نتائج كل انواع واشكال الصراع. فمن ينتصر بأفكاره يضمن لنفسه الانتصار في جميع مجالات الحياة.

وعودة الى تاريخ الاسلام، نرى ان افكار الاسلام ومبادئه هي التي انتصرت اولاً في نفوس من اسلم فحكمت مسلكهم الروح القرآنية، ثم تلى ذلك الانتصار الحضاري العربي الاسلامي الذي حققه العرب.

اليوم، فقدَّ العرب والمسلمون حضارتهم، وعلى من لم يبلغه النبأ: ان يتفرس في عيون الناس، يقرأ صحيفة، يدير مؤشر التلفاز والمذياع مروراً بعواصم المشرق والمغرب، ينظر الى المرآة، يختلس نظرة الى اعماقه، عندئذ سيجدها كلمة منقوشة في كل العيون.. مكتوبة بكل الأحرف، منطوقة بكل لهجات أمة العرب.. الهزيمة ، السقوط الحضاري ، لقد نحى العرب والمسلمون عن مقعد قيادة البشرية.

محاولة منا بين هذه السطور والامة العربية تمر اليوم بمرحلة تتضمن نتيجتها مصير كل عربي، بل وربما تتضمن نصيباً من مصير كل انسان بمقتضى التفاعلات الموجودة اليوم بين الكتل البشرية التي تؤلف الانسانية.

السؤال هنا: كيف يستطيع العرب المسلمون ان يجتازوا هذه الهزيمة، وان يبدأوا دورة حضارية جديدة؟

ان الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع. وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ ان يسير بركب التطور نحو شكل من أشكال الحياة الراقية، هو ما نطلق عليه اسم الحضارة. من هنا، وجب القول بأنه اذا كان التاريخ هو الذي يصنع المجتمع او بشكل آخر الحضارة، فان صناعة التاريخ تتم تبعاً لتأثير عوالم اجتماعية ثلاث:

1- تأثير عالم الاشخاص.

2- تأثير عالم الافكار.

3- تأثير عالم الاشياء.

وهذه العوالم الثلاثة لا تعمل متفرقة، بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقاً لنماذج ايديولوجية من عالم الافكار، يتم تنفيذها بوسائل من عالم الاشياء من اجل غاية يحددها عالم الاشخاص، فالعمل التاريخي بالضرورة من صنع الاشخاص والافكار والاشياء جميعاً.

وهذه الشروط تستلزم كنتيجة منطقية وجود شرط رابع هو شبكة العلاقات الاجتماعية، الذي يوفر الصلات الضرورية داخل هذه العوالم الثلاثة لتشكل أخيراً الحضارة.

مما سبق، يمكننا معرفة الخلل واكتشاف شروط اليقظة. ان الخلل نشأ وينشأ من جهات اربع، فأما انها تنشأ من خلل في عالم الاشخاص، واما انها تنشأ من خلل في عالم الافكار، واما انها تنشأ من خلل في عالم الاشياء، واما انها تنشأ من خلل في علاقات هذه العوالم بعضها ببعض، اي في شبكة العلاقات الاجتماعية.

+ الخلل في عالم الاشخاص، بداية السقوط الحضاري

من السهولة والطبيعي ان نتصور الخلل في عالم الاشخاص، اي الفرد المسلم حيث تكمن المأساة من علاقة المسلم بالاسلام- سوء فهم الاسلام من قبل اشخاص المسلمين- او بعبارة اخرى انه سوء نقل الاسلام من الجانب العقيدي الروحي الى الجانب التطبيقي الاجتماعي، فهذه العلاقة مزدوجة، اذ هي روحية اجتماعية.

ان العلاقة الروحية قوية سليمة لا يمكن مسها بأعتبارها اصبحت يقيناً مطلقاً والضمير المسلم لا يشعر بأي نوع من القلق الميتافيزيقي.

وعلى العكس من ذلك، العلاقات الاجتماعية افسدتها الحياة التي يعيشها المسلم، ولأن شبكة العلاقات الاجتماعية هي التي تؤمن بقاء المجتمع وتحفظ له شخصيته، وانها هي التي تنظم طاقته الحيوية ليتيح له ان يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ.

فالمشكلة التي تواجه العربي المسلم اليوم هي تقريباً المشكلة نفسها التي عبر عنها الرسول (ص) في قوله: “لا يصلح آخر هذه الامة الا بما صلح به اولها”

فنحن بحاجة الى اعادة تنظيم طاقة العربي المسلم الحيوية وتوجيهها واول ما يصادفنا في هذه السبيل هو انه يجب تنظيم تعليم الاسلام بحيث يوحى من جديد الى الضمير العربي المسلم، الحقيقة الاسلامية كما لو كانت جديدة نازلة لحظتها على هذا الضمير.

كذلك، يجب تحديد رسالة العربي المسلم الجديدة في العالم، وهي بعثه لاتمام مكارم الاخلاق.

وفي ثنايا التعاليم الاسلامية نعثر على الشاهد الذي يبث في ضمير العربي المسلم، يقيناً ان شبكة العلاقات الاجتماعية بين الاشخاص العرب المسلمين هي الطريق الى الله.

اما اذا تفككت الشبكة، فذلك ايذان بهلاك المجتمع، وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كتب التاريخ. ففي الحديث الذي رواه مسلم عن النبي (ص): ان الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن ادم، مرضت فلم تعدني.

قال: يارب كيف اعودك وانت رب العالمين.

قال: اما علمت ان عبدي فلانا مرض فلم تعده، اما علمت انك لو عدته لوجدتني عنده.

يا ابن ادم: استطعمتك فلم تطعمني .

قال : يارب ، كيف اطعمك وانت رب العالمين .

قال: أما علمت انه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، اما علمت انك لو اطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن ادم، استسقيتك فلم تسقني.

قال: يارب، كيف اسقيك وانت رب العالمين.

قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، اما علمت انك لو سقيته لوجدت ذلك عندي.

ان الامر بالغ الاهمية في الحديث، انه يقول للمسلمين: ان الطريق الى الله ليس فقط في صلاة وصوم وزكاة وادعية واذكار وجلوس في المساجد واستحضار اسماء الله الحسنى وخادميها وانتظار العصى السحرية لحل مشكلات العرب المسلمين.

ان الله جل جلاله هنا في هذه الارض، في كل خير يقدمه الانسان لغيره. وفي كل عمل شريف يؤديه. في كل خطوة ايجابية يخطوها ذلك على مستوى علاقة الانسان بالانسان، فما بالكم اذا تعلق الامر بالتزام الانسان تجاه مجموع الخلق؟

فمن لم يهتم بأمر العرب والمسلمين فليس منهم، هكذا قال الرسول (ص) وربما كانت هذه الحالة من التحلل والتمزق في المجتمع العربي الاسلامي، حين اصبح عاجزاً عن اي نشاط مشترك، هي التي اشار اليها قول الرسول (ص): يوشك ان تداعى الامم عليكم كما تداعى الأكلة الى قصعتها.

قالوا: او من قلة نحن يومئذ يا رسول الله.

قال: لا، بل انتم كثير، ولكنهم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من قلوب اعدائكم المهابة منكم. وليقذفن في قلوبكم الوهن .

قيل : وما الوهن يارسول الله ؟

قال: حب الدنيا وكراهية الموت.

نرى من ذلك، ان العلاقة الفاسدة في عالم الاشخاص تؤدي الى السقوط الاجتماعي الذي بدوره يؤدي الى السقوط الحضاري، لذا فان عملية تنظيم وتوجيه وتقوية شبكة العلاقات الاجتماعية ينبغي ان تكون المهمة الاولى في خطة النهضة العربية الاسلامية في ظل الحكمة القائلة: الفرد للمجموع والمجموع للفرد.

والمشكلة بعد ذلك يحكمها قرار لا حوار، وموقف لا حجة، وعمل لا كلام، فان الامر اكبر بكثير مما نظن. لذا يجب على الحكومات العربية والاسلامية ان تعتمد هذا المشروع لبعث المسلمين، اذ ان كل ما يقوي شبكة العلاقات الاجتماعية في المستوى العربي والاسلامي يقويها من باب اولى في المستوى القومي.

وقد آن الاوان لتنطلق هذه الامة، وقبل الانطلاق عليها ان تفكر…

+ الخلل في عالم الافكار والاسلام واشكالية فهمه

يحسن بأي ساع للثورة والاصلاح في الوطن العربي والاسلامي، ان يتوقف عند هذا الموضوع. لأن سوء فهمه لا يزال اشكالية تقتضي الحل.

لقد ادرك الاوربيون وفي وقت مبكر هذا الأمر، لما ترتب على نتائج الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر للميلاد.

عرفوا ان انتصارهم العسكري لم يجدهم شيئاً، او يبق لهم وجوداً في الامة العربية بعد ان تحطم هذا وتهافت امام انتصار صلاح الدين الايوبي في حطين، ولذلك يمموا الى الشاطئ الآخر من الصراع الى الافكار

، من اجل السيطرة على الوطن العربي ومحيطه الاسلامي عن طريق الصراع الفكري، لأن معركة الافكار وانتصار الافكار يتبعه انتصارات في جميع مجالات الحياة.

وكان الصراع الفكري شراً على المجتمع العربي والاسلامي، لانه ركب في تطوره العقلي عقدة الحرمان سواء في:

1- صورة المديح والاطراء التي حولت تأملاتها عن الواقع المعاصر وغمست نفسها في نعيم وهمي في الماضي عن طريق الافكار الميتة يجعلنا امام حالة عقلية ونفسية في الواقع العربي والاسلامي الراهن ترفض الموجود كله، افكاراً واشخاصاً ومذاهب، حالة خصومة مع الزمن الذي نعيشه، عاجزة عن فهمه او التفاهم معه.

2- او صورة التنفيذ والاقلال من شأننا باحداث الفراغ الفكري واقتلاع الشعوب من جذورها الحضارية باظهار تهافت كل ما تملكه من مقومات امام الحضارة الغربية، وهي الافكار القاتلة.

بهذه الطريقة خاض ومازال الآخر المختلف معاركه مع العرب والمسلمين بتحقيق الانتصار في الصراع الفكري.

ومشكلتنا نحن العرب والمسلمين في هذا الجانب مشكلة قاتلة، لذا تتطلب مشكلة الافكار حلاً، ولأن السقوط الحضاري الحاصل في وطننا العربي ومحيطنا الاسلامي، يعود في قسم كبير منه الى عدم فعالية الافكار.

وهنا ندعو اصحاب الاتجاه الاسلامي الى انشاء (كومونولث) عربي اسلامي، اهدافها ما يلي:

اولاً- دراسة الجوانب السلبية والايجابية في المجال الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتقوم هذه الدراسة على الاحصائيات التي تجري في المجال العملي.

ثانياً- دراسة ابعاد المخططات العالمية بالنسبة لمنطقتنا العربية.

ثالثاً- تصفية السلبيات الموجودة في التاريخ العربي والاسلامي وفي الثقافة ذاتها التي انحدرت ألينا من عصر الجمود والانحطاط وتقديم الاسلام وحقائقه كاملة بالاسلوب المعاصر.

رابعاً- تحقيق جهاز فكري يعطي الحصانة الفكرية للمفكرين الذين يكونون غرضاً لهجوم القائمين على الصراع الفكري الذين يحاولون تعطيل خططهم وفعالية افكارهم.

ان تحديد هذه الاهداف هي الخلاصات التي تشكل منطلقات لابد منها في حل اشكالية عالم الافكار، وهي اشكالية فهم الاسلام وتفهيمه ونهضة عالمنا العربي والاسلامي.

+ الخلل في عالم الاشياء والتطلع الى ثورة اقتصادية

العلاقة الفاسدة في عالم الاشخاص لها نتائجها السريعة في عالم الافكار وفي عالم الاشياء.

والسقوط الاجتماعي الذي يصيب عالم الاشخاص يمتد لا محالة الى الافكار والى الاشياء في صورة افتقار وفاقة، والحمد لله، الامة العربية والاسلامية بشكل عام لا تشكو من عالم الاشياء، فالأمة العربية تملك الارض

الخصبة، والسواعد والعقول التي تؤهلها لثورة اقتصادية بكل ما تحمل الكلمة، تخلصها من التبعية والارتباط ولكن بشرط النظرة الوحدوية التكافلية للأمة العربية جمعاء.

وانه لنزق منكور وترف عقلي لا نحتمله، اذ لا يعقل ان ننساق او نُساق الى ملاحقة مشاكل صغار ونتفرغ لمتابعتها بينما ينوء كاهل الامة والوطن بهموم جسام لا حصر لها في المشاكل الاقتصادية، وهي معركة لابد من الانتصار فيها، لأن الانهزام فيها بعده الطوفان.

لقد حان الوقت لكي يتلمس العرب والمسلمون السبيل المستقيم نحو الاهداف التقدمية التي توصلهم الى التحضر، حتى يستعيدوا دورهم العالمي الانساني، هذا الدور الذي بواسطته ينقذ الانسان في اوطانهم وفي العالم اجمع.

الافكار متوافرة، والاشخاص عدداً وطاقة على تنوعها كثيرون، زراعة وطاقة وموقعاً، والروح والمناخ متوافران دوماً في الاسلام وعند العرب، ولأني لست بالرجل الذي يعطي وصايا، صادقاً اقول: ان هناك رغبة هائلة الآن لخنق هذه الامة تماماً، وأنا اطالب الذهنية العربية الواعية ان تتعامل مع هذه القدرة الفكرية الذهنية الهائلة التي وراء الخنق لكي تفلت من مشنقة الخنق.

على العقول ان تتحرك الآن، لان هناك ترويضاً ذهنياً مروعاً في العتبات الاولى لقرننا هذا، عملقة ذهنية تهدف الى شل حركة هذه الامة وتجزئتها والتهامها جزئية بعد اخرى.

وانا على يقين ان الانسان العربي المسلم الذي استطاع رغم تسلط الامبراطوريات الاستعمارية الكبرى، ان يتخلص من هذا الاستعمار ممكن ايضاً بدوره ان يتخلص من هذا السقوط الحضاري.

واخيراً وليس آخراً.. يقيناً اعرف ان هذه التأملات لا تنتهي الاشكالية وتمحوها من الوجود لكنها مجرد خطوة على طريق المشكلة ذات الاهمية الخطيرة بالنسبة لمستقبل العالم العربي والاسلامي. وأظن وليس كل الظن اثماً، انه لا يفي بالغرض مجرد دعوة الجماهير من خلال منابر الاعلام بشتى صورها، انما الذي يحرك الجماهير حقاً ان يروا ويلمسوا، ليس فقط ان يسمعوا، جدية الاصرار على مواجهة التحديات والمخاطر، وذلك بجهد خلاق تقوده رموز الامة وقياداتها يجعلان منه نمطاً في الحياة وسمة في السلوك.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات