23 ديسمبر، 2024 11:03 م

الثقة مرهم البقاء والاستمرار

الثقة مرهم البقاء والاستمرار

قبل أيام وأثناء عودتي ليلا إلى قضاء الناصرية, صادفني فِراشاً ملقى على قارعة الطريق, فارتبكت قليلا؛ لأني ظننت إن هناك رجلا ممدد . بعد تجاوزي فكرت في ما لو كان ذلك الشيء, رجل قد تعرض إلى حادث معين, فمن المنطق ي والواجب الأخلاقي القيام بإيصاله إلى المستشفى, إن كان جريحا, والى مركز الشرطة, إن كان قد فقد حياته, وعدم تركه اُكلاً للضباع, خصوصا ونحن في مدينه أمنه كالناصرية, ولكن هل هناك مؤاخذه قانونية على من يقوم بمثل هذا العمل؟. في الصباح نقلت هذا التساؤل إلى احد الإخوة المحامين, فأجابني بدون تأني إياك أن تفعلها؛ لأنه سوف يلقى بك في السجن, حتى يُتَثَبت من كونك لست الفاعل, ومن الطبيعي في طريق خارجي, وفي الليل, سوف لا يكون أمام القضاء والشرطة إلا من قام بمساعدة المجني عليه.
هذا الحديث ينقلنا إلى مفهوم الثقة, وأهميته في مفاصل حياتنا المختلفة, خصوصا ونحن أمام عملية بناء من الأساس, وليس إصلاحات ترقيعية, فلابد من بناء ثقافة, وتطوير نظام, يعززان من ثقة المواطن بأخيه في الوطن, كما يعزز ثقته بالدولة والقانون.
الثقة هي التي تقود المواطنين إلى الدخول في شراكات من اجل تطوير أعمالهم الخاصة, وجني الأرباح الكبيرة, وبالتالي دفع القطاع الخاص إلى المساهمة في القطاعات الإنتاجية الكبيرة, وكسر احتكار القطاع العام لها, ولكن هل إن ثقافتنا الشعبية تدفع بهذا الاتجاه؟ أم لازالت أفكار موروثة تسيطر على وعينا الاجتماعي, وتحول دون ذلك, أمثال (حقك بالأرباع ضاع)وغيرها, وهي نتاج لانعدام الثقة بين الأفراد. إن وجود الثقة في المجتمع يدفع بالأفراد إلى زج طاقاتهم الشخصية في الجهود المشتركة, فيضاعف من أرباحهم, كما يستثمر تنوع تلك الطاقات من رؤوس أموال, إلى خبرات ومهارات وغيرها, وإذ نظرنا إلى أهم الشركات في العالم اليوم, نجد إنها شركات مساهمة, بمعنى وجود شراكة لمالكيها, وما ذلك إلا لأنهم طورا نظاما يعزز الثقة بين الشركاء, فأصبحت الثقة إلى حد ما خلق اجتماعي تقوم عليه كثير من المعاملات المنتجة, دون الحاجة إلى التثبت من الربح في كل خطوة يقوم بها الشركاء, وهذا في الحقيقة لب الكثير من المعاملات الشرعية التي اقرها الإسلام, وحث عليها, كمضاربة في أعمال التجارة, والجعالة والإجارة في بقية الأعمالو والتي يكون عنصر الثقة عنصرا مهما في أصل وجودها.
الثقة بالقانون تشكل عنصرا محفزا في إدامة الأمن الاجتماعي, وازدهاره, فما ذكرته في المقدمة لا يشجع على التلاحم الاجتماعي, ومساعدة المحتاجين, إذ لابد أن يكون القانون بشكل يدفع المواطن إلى تقديم العون لأخيه, وإيجاد نظام من الحوافز لهذا الشأن, إضافة إلى الحوافز التي يأخذها الإنسان من منظومته الثقافية والتي عمادها الإسلام عندنا, حيث يصرح أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد : (ما حصل الأجر بمثل إغاثة الملهوف، وقال: أفضل المعروف إغاثة الملهوف) فلابد من تطوير القوانين, بالشكل الذي يجعل المواطن يثق بعدالتها, فتزداد همته في وجوه الخير, فيطيب العيش للفرد, والمجتمع, وان تكون إجراءات ملاحقة الجناة بعيدا عن النيل من ثقة المواطن بعدالة القوانين.
وليس بعيدا عما تقدم, لابد أن لا تمس إجراءات النزاهة بثقة الموظف والعامل في القطاع الحكومي, بما يتوجب عليه فعله, فتموت فيه روح المبادرة, والإبداع, ويبقى مترددا إزاء أي إجراء يقوم به, خوفا من سوط النزاهة التي تستقدم من شاءت, من خلال شكاوى على موقعها الالكتروني تسجل باسم (الصالح العام), وكم من أناس يتمتعون بأعلى درجات النزاهة تشوهت سمعتهم, نتيجة إبلاغات كاذبة ومأجورة ! فلابد أن تُكيف النزاهة إجراءاتها, بالشكل الذي يحفظ سمعة الموظف الحكومي وثقته بعدم المساس بها .
الثقة في الإجراءات الحكومية يعد محفزا كبيرا للتنمية, ويخلق اقبلاً لاستثمار رؤوس الأموال في القطاعات المختلفة, فكثيرا من الفلاحين اليوم يعزفون عن زراعة المحاصيل التي دأبوا على زراعتها, لأنهم لا يثقون بان الحكومة تقف إلى جانبهم, عند جني الثمار وتعمل على ضبط الحدود واستقرار الأسعار. نقل احد الفلاحين انه قد هجر مزرعة الطماطم, التي كان عمرا يزرع فيها, لان الحكومة عجزت عن جعل صندوق الطماطم(28 كيلوا) مستقر على سعر الخمسة آلاف دينار (والتي يقبل بها ويعدها مربحة ), أي انه يوافق على بيع الكيلو بـ 170 دينار تقريبا .
الخلاصة إننا بحاجة الى مجموعة من التشريعات, والإجراءات, وإشاعة أجواء ثقافية تعزز من الثقة المتبادلة بين المواطنين أنفسهم, وبينهم وبين النظام السياسي بصورة عامة, من اجل خلق مجتمع متماسك وقادر على التقدم والتنمية.