19 ديسمبر، 2024 1:59 ص

وداعاً شاعر الموصل وعاشقها معد الجبوري

وداعاً شاعر الموصل وعاشقها معد الجبوري

غادرنا شاعر العراق والموصل معد الجبوري (أبا حارث) الى عليين في الساعة الأولى من يوم السبت المصادف الأول من نيسان لهذا العام (2017) عن عمرٍ ناهز (71) عاماً أثر مرض لم يمهله كثيراً.
لقد عرفتُ الفقيد إنساناً وطنياً مبدئياً لا يحييد عن وطنيته غير راغباً بالتسلق الى أعلى المناصب الزائلة التي كانت مفتوحة أمامه على مصراعيها، لكنه رضي بإن يخدم معشوقته الموصل من خلال منصب مدير المجمع الإذاعي والتلفزيوني فيها قبل سنوات الإحتلال.
أمتعنا الراحل/الخالد الذكر معد الجبوري بشعره الذي كانت تشع من مفردات كلماته وأبياته صفات النُبل والشموخ والوطنية الحقّة ـ ـ وقد أفرغ فيه عظيم محبتهِ لبلدته الموصل وبلدهِ العراق وإنتمائه القومي النقي المتفاعل إيجابياً مع محيطه الإنساني المتنوع، كما كان آخر عمالقة مؤلفي المسرحيات الشعرية الذين من الصعب تكرارهم وملئ فراغهم الأدبي والفني.
لقد كان لي مع “أبي حارث” تواصل عبر موقع “بيت الموصل” ومن ثمّ عبر البريد الألكتروني، وكم تمنيتُ أن يسعفني الزمن للقائه والتعرف عليه عن كثب، ولقد إستمر التواصل بيننا عبر المخاطبات في البريد الألكتروني كلما نشر قصيدة من قصائده في وسائل الإعلام، فينبئنا نحن ممن تشرفنا بحمل صفة “الأصدقاء” له بمتابعة نشاطاته الأدبية الغزيرة بمحتواها الأدبي والمعرفي حتى جاءت أسراب الجراد “الداعشية” غازية للموصل وقطعت سبل التواصل الإنساني والمعرفي بين محبي الحياة وجماليتها، فجازفتُ يوماً ما بإرسال رسالة له عبر البريد الألكتروني وبعد أن فاض بي الشوق والحيرة والقلق لسماع أخبار الأصدقاء من أدباء وأساتذة أجلاّء المتواجدين داخل الموصل ومنهم شاعرنا الراحل وفي ظل الظروف والأحداث التي كانت تتناقلها وسائل الإعلام وتبثها حول معاناة الموصليين تحت حكم داعش وبالأخص أصحاب القلم والمعرفة، وكان هذا مع بداية زمن الإحتلال الداعشي، فأجابني الراحل العزيز بمقتضب الكلام وبما قلّ ودل وأوضح لي الصورة المأساوية المحددة بإطارها أو الأصح بسورها الذي أحاطت به “داعش” مناحي الحياة، وأحاطني علماً بما يجري تحت حكم الدواعش بكلمات معبّرة لشاعر وأديب متمكن يستطيع إختصار كتاب ضخم بكلمات وجيزة مختارة تماماً كما كان يفعل عندما كان يُعلّق على مقالاتي ونشاطات بقية الأدباء والأساتذة الأدبية في موقع “بيت الموصل” بصدق ومهنية وبعيداً عن المجاملات المُسْرِفة إلا بحدودها الإنسانية الطبيعية.
وعندما قررتُ كتابة مقالة بعنوان “إنها الموصل أيها المحررون” قبيل تحرير الموصل لحثِ الطرف المحرر على العناية بأقصى ما يستطيعون بأهلنا في الموصل وصروحها الباقية التي سلمت من تدمير داعش وتذكيرهم بعظمة الموصل ومكانتها ومكانة أهلها عبر التاريخ، لم أجد بداً إلا أن أزينها وأدعمها بأبيات من قصيدة الشاعر الراحل معد الجبوري “أم الربيعين”، وكم كانت المفاجئة لي حين نشر الإعلام نموذجاً لإحد المنشورات التي أسقطتها الطائرات العراقية على الموصل في نفس يوم نشري للمقالة تحتوي على أبيات نفس القصيدة لشاعرنا وأديبنا معد الجبوري!!!.
وحين تحرر الجانب الشرقي للموصل تواصلتُ مع أ.د. سمير بشير حديد وتمنيتُ عليه إطلاعي على أخبار الأصدقاء من جهابذة بلدتنا الموصل فرداً فرداً ومنهم إستاذنا الجليل الدكتور حسيب حديد الذي شرفني وفاجئني برسالة الكترونية لا يزال محتواها عالقاً في ذهني أيام ما كان التواصل من داخل الموصل مع خارجها يُعتبر جريمة بنظر داعش!!!، وأيضاً كان مِن بين مَنْ حرصتُ بسؤالي عنهم شاعرنا الراحل العزيز معد الجبوري وولده العوّام في نفس بحر والده الشعري “حارث” وصديقنا الفنان المسرحي صبحي صبري وجميع أصدقائنا وإخواننا الآخرين الذين أحجب أسمائهم الآن خوفاً عليهم من أنهم ربما في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة داعش، فطمئنني الأستاذ الدكتور سمير حديد مشكوراً على البعض منهم ممن يسكنون في الجانب الشرقي ومنهم أبو حارث (معد الجبوري) فبعثتُ له بإيميل مهنئاً بسلامته وإنتظرتُ ردّه ولم يكن في خلدي من أنّ المرض قد داهمه وحجبه على غير عادته في الرد السريع على إيميلات معارفه وأصدقائه، وجاءني الجواب في اليوم الذي أُطْلِقَ عليه كذبة نيسان بخبرٍ قرأته ونزل كالصاعقة على كياني برحيله الى دار حقه ناعياً مغادرته على غير موعد إبنه الشاعر حارث معد الجبوري، وكم تمنيت أن يكون خبر وفاته كذبة ككذبة نيسان التي يتداولها الناس في مثل هذا اليوم من السنة!!!.
وسأورد أدناه بعضاً من مراسلاتنا الألكترونية لما فيها من أهمية أدبية وتوثيقية:
حيثُ كنتُ قد أرسلتُ له إيميلاً جواباً على إرساله لإيميل الى نخبةٍ من أصدقائه ومنهم كاتب هذه السطور يدعوهم فيه الى قراءة إحدى قصائده التي نشرها في الف ياء جريدة الزمان الدولية  بعنوان “للبلاد التي تسكنني” ، أدناه نص جوابي:
“والله وأنا أقرأ قصيدتك (للبلاد التي تسكنني) تراءى لي الوطن بما أحمله له في صدري وأعماقي من صورة جميلة حملتها بين ثنايا جوانحي وتحت أضلعي حين غادرته مكرهاً، أمنّي النفس بعودة بلدي الحبيب الى ربيعه الذي ما عادت تتفتح فيه أزاهيره البرّية المعبّقة بأريجها الربّاني، دمت للوطن شاعراً يحمل همومه التي أثقلت كاهله”
أخوكم ـ ـ
سالم إيليا ـ ـ
وفي تبادل للمراسلات الألكترونية بيننا وقفت عند معلومة فريدة ذكرها فقيدنا الشاعر معد الجبوري في إحدى مقالاته وذكرياته عن مهرجان “أبي تمّام” ربما لم يتطرق اليها الشاعر الكبير نزار قباني إلا أمام نخبة قليلة من الشعراء والأدباء ومنهم شاعرنا الكبير معد الجبوري، وحيثُ تُعتبر معلومة مهمة عن أصول الشاعر نزار قباني!!، وستجدونها من خلال ردّي على رسالته الألكترونية والرابط المرفق لمقالته:
05/21/13 at 9:46 pm  ـ ـ
أصدقائي الأعزاء ـ ـ
إليكم من التحيات أطيبها ـ ـ
على الرابط أدناه:
(من الذاكرة: مهرجان أبي تمام عام 1971) ـ ـ
حديث لي نشر في صحيفة (المثقف) ـ ـ
وكنت قد نشرته قبل سنوات في (ملتقى أبناء الموصل) ـ ـ
والمنشور في المثقف هو (الحلقة الأولى) ـ ـ
وستتبعها حلقات أُخَر ـ ـ
وددت أن تطلعوا ـ ـ
مع فائق تقديري ـ ـ
معد الجبوري ـ ـ
http://www.almothaqaf.com/memoir/74832.html

وكان جوابي له:
05/30/13 at 10:31 am ـ ـ
رفوف ذاكرتك أيها الشاعر الموصلّي الأصيل الأستاذ معد الجبوري تحتوي على نفائس المخطوطات التي لم تُنشر بعد !! ، فلأول مرة أسمع من أن الشاعر الكبير نزار قباني يعود بأصله الى مدينة الموصل بقولك: “ثم فاجأَنا قباني بقوله (الله .. يا مدينة أجدادي) وأضاف (لا تستغربوا، فأنا أَصْلِي من مدينة الموصل وقد هاجر جدي منها منذ زمنٍ بعيد، إلى الشام)”. هذا التوثيق المهم لجذور شاعر كبير كنزار قباني يضفي أهمية مضاعفة لِما تجود به علينا ذاكرتك الوقّادة، حيثُ تتحفنا بنوادر الأحداث التي تعرضها علينا بإسلوبك الأدبي الآخاذ إذ نعيش فيها بأزمانها، ومن المؤسف حقاً أن تصل المماحكات بين الشاعرين الكبيرين البياتي والقباني الى هذا المستوى، وحسناً فعلت أيها الصديق الصدوق الإستاذ معد الجبوري في تدوينها، أشكرك جزيل الشكر على هذا التدوين الشفاف الصادق والخالي من التزويقات لطريقة سير الأحداث بأماكنها وشخوصها والى المزيد من النفائس التي تزدحم فيها رفوف ذاكرتك الحادة دائماً بعونه تعالى.
كان هذا هو تعقيبي الذي نشَرْتُه في موقع المثقف على ما جادت به ذاكرتك الرائعة فأتحفتنا بدرر الأحداث، مع محبتي الصادقة.
أخوكم ـ ـ
سالم إيليا ـ ـ
وفي إحد ردوده على مداخلتي لقصيدة من قصائده قال :
شكرا لك أيها المتلقي الرائي القاص والكاتب المبدع الأستاذ سالم إيليا، على قراءتك المتفردة الخاصة، المبشرة  بمجيء شهدائنا ، يوم يبدأ يوم جديد لعراق جديد حقا وليس كما ادعى المحتلون وحلفاؤهم .. وإنه لآت مهما طال الليل .. أحييك عزيزي ابن الموصل الأصيل الأستاذ إيليا، وأشكر لك هذه الإطلالة الشفافة على قصيدتي .. دمت متألقا ـ ـ
ستجد هذا التعقيب منشورا في صحيفة المثقف. ـ ـ
معد الجبوري ـ ـ
لقد رحلتَ يا أديبنا وشاعرنا معد الجبوري كمداً والماً على ما أصاب معشوقتك الموصل من الهول والدمار على يد الضلاليين، فهكذا هم العشّاق لا يموتوا من علّةٍ إلاّ علّة الحزن على معشوقتهم.
لا أعلم هل نعزي أنفسنا أم نعزي عائلتك وإبنك حارث على رحيلك؟!!.
وداعاً يا صائغ حروف الأبجدية وأبيات شعرها المطهّمة بفيروز عشقك وحبك لبلدتك الموصل وبلدك العراق.
نَمْ يا أبا الحارث قرير العين، فقد رحلتَ وما رحلتَ!!! ـ ـ وحيثُ رحل الجسد وبقيت أشعارك وأعمالك الأدبية مخلّدة تحمل إسم شاعر جلس على أعلى قمة هرم الشعر العربي يُكنى بمعد الجبوري.

أحدث المقالات

أحدث المقالات