-1-
يشتطُ بعضهم في الحكم على الناس فيُصدرُ أحكاما صارمة ، ويرسم صوراً قاتمة ،ويخيل اليك انّه قد غسل يده منهم جميعاً ومن دون استثناء..!!
-2-
انّ هذه الاحكام المرتجلة لا تصمد أمام الكثير من الوقائع التي يبرز فيها النبلُ ماثلاً، وتتجلى فيها المروءةُ واضحةً للعيان، لتشير الى حقيقة لا يصح أنْ تهمل تقول :
الأطياب موجودون في كل عصر ومصر، ولا تخلو منهم ايةُ بقعة جغرافية في العالم .
-3-
وفي كتب التاريخ والسيرة ركامٌ هائل من الشواهد والأدلة على ذلك .
ونستل من ذلك الملّف الضخم قصة (محمد بن احمد الخزرجي ت 651 هجرية ) :
لقد جاءه شخص يرجوه ان يكلّم مالك الدار التي يسكنها ، وقد زاد في الايجار أنْ يرفع عنه الزيادة، فمضى (الخزرجي) الى صاحب الدار وأعطاه الزائد مدة أشهر فعلم الساكن في الدار بهذا بعد مدة ، فقال له :
يا سيدي :
ما سألتُ الا شفاعة “
فقال له :
” رجلٌ له دارٌ يأخذ أجرتها ، يجيء اليه (الخزرجي) يقطعُ عليه حقه !؟
والله ما يدفع هذا إلاّ أنا
فلم يزل يدفع الزائد الى ان انتقل الساكن الى غيرها “
المقفى الكبير ج5/90
وقف هذا (الخزرجي) النبيل بين رجلين :
بين المستأجِر والمالك :
ورأى أنّ بمقدروه أنْ يدفع الزيادة للمالك من ماله الخاص ، ودون أنْ يشعر الساكن بذلك، وبهذا رفع الحرج عنه ويكون قد حلّ المشكلة .
فمضى مسرعاً في التنفيذ ..!!
لقد اعتبر دفع الزيادة في ايجار مسكن صاحبه جزءً من مصروفاته الشخصية .
وهذه هي الانسانية والاريحية
وقد تقول :
ان هذه القصة وقعت قبل قرون، ولم يعد فينا من يملك مثل هذه الروح ..
فأقول :
لقد صادرت السلطة العفلقية الغاشمة داري بكل ما فيها ، وأهم ما فيها مكتبتي الشخصية العامرة بأهم المصادر والمراجع، بمخطوطاتها ومطبوعاتها، وكل ما أملكه من وثائق ومستندات وصور …
لقد تم ذلك عام 1982 .
بينما كنت قد غادرت الوطن عام 1979 ، وَلَمْ تبق الدار خالية فقد قام (وكيلي) بقبض ايجار الدار من المستأجِر الذي قبل ببقاء المكتبة على حالها في الدار ..
وقد استدعت مديرية الأمن العامة ” وكيلي ” وطالبَتْه بدفع ما يزيد عن (8000) دينار ، خلال 24 ساعة ، والاّ اتخذت بحقه الاجراءات المعروفة ..!!
انها لم تكتفِ بمصادرة البيت ،
وانما زادت على ذلك بان أمرت وكيلي بدفع ما يزيد على (24000) دولار خلال 24 ساعة .
وهنا وقع (وكيلي) في حيرة واضطراب ..
من أين له أنْ يدفع هذا المبلغ الباهظ ..؟
فسارع الى اخبار أحد اصدقائنا الابرار بذلك ، فما كان منه الاّ أنْ أَحضرَ له المبلغ كاملاً غير منقوص وقال له :
اذهب غداً وادفعه ،
فأجابه وكيلي :
وكيف يكون الوفاء لهذا الدين ؟
انني لا أملك القدرة على السداد .
قال له الصديق :
انك لست مسؤولا عن وفاء الدين
انّه بيني وبين مُوكلِك ..
وبعد أنْ عُدت الى الوطن الحبيب التقيت الصديق العزيز وذكرّته بالقضية
فقال :
انت في حل مني
وهكذا تتواصل حلقات المناقب الاخلاقية جيلا بعد جيل …