لم يكن اجحافا ولا اعراضا.. ولا اهمالا ، وليس اغماطا لحقه واستصغارا لشأنه -ومع كثافة وغزارة ما كتبته من مقالات واعمدة صحفية في شتى اهتمامات الساحة العراقية والعربية والعالمية للصحف والمجلات والمواقع الالكترونية من 2003الى يوم الناس هذا- لم افرد ولم اخصص عنوانا واحدا للسيد علي الحسيني السيستاني، عن غير قصد، ودون معرفة سبب وجيه، اللهم الا وجود قناعة ترسخت في عقلي الباطن وهي ان هذا الرمز الضخم كيان متفرد بكل مايملكه من مقومات القيادة الدينية والتسديد الالهي ليس بحاجة لاعلان اوتعريف او دعاية ، وغني عن سطور تمدحه سيما وهو الزاهد البسيط المتعفف الذي يرفض الرد على من اساؤوا له و شتموه واتهموه. ويحضرني رد المتنبي حين عوتب على تركه مدح الامام علي كرم الله وجهه فقال:
وتركُ مدحي للوصي تعمدا
اذْ كان نورا مستطيلا شاملا
واذا استطال الشيئ قام بنفسه
وصفات ضوء الشمس تذهبُ باطلا
طبعا الامثال تضرب ولا تقاس ولا وجه للمقاربة والمقارنة لكنه مثل في سياق الاستشهاد ليس الا. الامر الذي دعاني اليوم لتخصيص هذا العمود للسيد علي الحسيني السيستاني هو مقالة رائعة نشرها احد الاخوة الكتاب في موقع الكتروني في 18مارس 2017. ومن ضمن ما جاء فيها “..ان اكثر الشيعة العرب في العراق مرجعيتهم للسيد السيستاني، وبالرغم من انه ايراني الاصل الا انه يرفض التبعية لايران، ولا يتبنى ولاية الفقيه وقد اكتسب مكانة مهمة في العراق من خلال التفاف الشيعة العرب حوله” انتهى الاقتباس.
ويبدو ان هذه العبارة المنصفة لم ترق لاحد الاخوة الكتاب فعلق بعبارة غريبة جدا لا تصدر عن ابسط مواطن عربي او عراقي فضلا عن كاتب واعلامي !. جاء التعليق كالاتي : “… اما بالنسبة لما يسمى بالسيستاني فلا وجود له على الساحة العراقية”!!. وقد رده الاستاذ الكاتب ردا هادئا مقنعا، مستغربا مستنكرا مستهجنا تعليقه المجحف.
تذكرت اليوم بضع محطات مشرقة مشرفة لهذا العالم الرباني الذي شاء القدر ان تكون فترة مرجعيته في احلك واخطر ظروف فوضوية متداخلة الخنادق ومختلطة الاوراق يشهدها العراق خاصة والعالم العربي عامة.
* اول فتوى اصدرها السيد السيستاني مع اللحظات الاولى لسقوط السلطة السابقة هي حرمة التعدي على الاملاك العامة والخاصة ووجوب الحفاظ على مؤسسات الدولة.
* شدد على المرحوم السيد سيرجي ديميلو مبعوث الامم المتحدة الاول وعلى الاخضر الابراهيمي خلال لقاءاته بهما على ضرورة اجراء انتخابات وفقا لسجلات البطاقة التموينية وقد اشاد السيد ديميلو بحنكة وحكمة السيد السيستاني وحرصه على انقاذ العراق من محنته، وعلى اثر تلك المقابلة وبعد ايام فقط تم تفجير مقر الامم المتحدة واستشهاد السيد ديميلو وبعض مرافقيه و طاقمه.
* عارض كتابة الدستور العراقي خارج العراق واصر على كتابته بايد عراقية من نخب مكونات واطياف الشعب العراقي وتم ذلك وان كان على عجل وتضمن بعض الهفوات.
* وأد فتنة النجف التي اثارها التيار الصدري وكادت تحدث حربا بين الشيعة وتنتهك حرمة العتبات والاضرحة المقدسة قاطعا فترة علاجه في لندن مع ما فيها من مخاطر على وضعه الصحي.
* رفض مقابلة بوش وجميع الوفود التي تمثل الاحتلال رغم الحاحهم وارسالهم وساطات سياسية دولية وقال “نرحب بكم ضيوفا اعزاء حين تنهون الاحتلال وتأتون اصدقاء”.
* حث على المشاركة في الانتخابات المحلية والبرلمانية لثلاث دورات مؤكدا على اختيار الاصلح والاكفئ وعدم تجربة المجرب او اعادة الفاشلين للسلطة، لكن الاحزاب المسيطرة على العملية السياسية استغفلت الناس وخدعتهم باساليب شيطانية تجهيلا و ترغيبا وترهيبا.
* اطفأ نار حرب اهلية كادت تحيل العراق رمادا حين اشتعلت الفتنة عند تفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء مؤكدا على الشيعة بمقولة شهيرة صارت خطا احمر “السنة انفسنا” ولا دخل للسنة بهذه التفجيرات وان العدو الخارجي يدفع الشيعة لقتال السنة بارتكابه هذه الافعال الاجرامية.
* خصص جزءا من واردات العتبات المقدسة في النجف الاشرف وكربلاء والكاظمية وسامراء تصرف لاعانة النازحين من المناطق التي احتلها الدواعش. واوعز الى مقرات المواكب الحسينية والمدن السكنية المخصصة لخدمة الزائرين ان تفتح ابوابها لايواء النازحين من الفلوجة والرمادي والموصل. كما دعا الى تخصيص طائرات تنقل المؤنات الغذائية والطبية والمنزلية للمناطق المحاصرة التي لايمكن دخول السيارات اليها.
* طلب من الحكومة اخراج وزير التجارة في النظام السابق من السجن واعادته الى منصبه كونه لم يرتكب جرما ، فضلا عن كفاءته في توفير مواد البطاقة التموينية في اوقاتها دون نقص او فساد ومن مصادر ومناشئ معتبرة، لكن بعض خبثاء الاحزاب اخفوا الطلب كون وزارة التجارة من حصتهم وفق المحاصصة.
* وحين احتل الدواعش عدة محافظات عراقية وصارو على مشارف بغداد العاصمة تدارك الموقف باصدار اجرئ فتوى في التاريخ المعاصر “فتوى الجهاد الكفائي” والتي لبى نداءها العراقيون صغارا وكبارا ومن كل اطياف الشعب واستطاعوا دحر الدواعش وتحرير جميع المناطق من دنس داعش ومشتقاتها وهم يزلزلون الفضاء بارجوزة فداء مدوية “شلون انعوف الساتر والسيستاني موصين عليه (1)”، ولم تبقى الا جيوب منهارة في الموصل في طريقها الى التحرير ان شاء الله.
* اغلق بابه بوجه السياسيين الفاسدين المفسدين في الحكومة والبرلمان وقاطعهم مقاطعة تامة.
* زاره بان كيمون الامين العام للامم المتحدة وذهل امام وقاره وحكمته وهيبته واثنى على حرصه على وحدة العراق واحتضانه للعراقيين جميعا واخماده للفتن التي كادت ان تثير حربا طائفية.
* أثنى رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العالم السويسري الدكتور بيتر موير, على جهود المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني لإغاثته النازحين من مدينة الموصل. ودعوته للمسلمين الشيعة بإغاثة النازحين السنة من الموصل، وقال “مئات الأطنان من المواد الغذائية والملابس وصلت النازحين فعلاً من المرجع الشيعي الأعلى في العالم السيد علي الحسيني السيستاني وأتباعه ووجه الجيش العراقي والحشد الشعبي والمتطوعين لحماية المدنيين وتقديم الطعام لهم وبالفعل نصب أهالي جنوب العراق عشرات السرادق في شمال العراق ليعدون الطعام فيها ويقدموه الى الأسر السنية النازحة من الموصل. وأضاف السفير الدكتور بيتر موير الذي كان سفيراً ورئيساً للشعبة المكلفة بالأمن الإنساني و سفيراً ورئيساً لبعثة سويسرا الدائمة لدى الأمم المتحدة ووزيراً للخارجية في سويسرا والمختص بالشؤون الإنسانية أثناء الحروب والنزاعات المسلحة قبل أن يتم إنتخابه رئيساً للجنة الدولية للصليب الأحمر في العالم. في بداية السنة الميلادية ذهبت وقابلت السيد العظيم السيستاني وشكرته على جهوده لإغاثة النازحين من مختلف المناطق والأديان والمذاهب والقوميات. وهو ليس مرجع للدين الإسلامي فحسب بل هو مرجع للإنسانية.. حيث ينفق أكثر من ثلاثة ملايين دولار شهرياً عبر مؤسساته الخيرية لرعاية وكفالة الأيتام وإغاثة النازحين والأرامل والفقراء وباقي الأمور الإنسانية.
* كل هذا الموج الزاخر يتحدر من بيت “ايجار” مساحته 70مترا متهالك البناء من خمسينات القرن الماضي في زقاق ضيق من ازقة النجف الاشرف القديمة.
…………………………….
(1): هذه الارجوزة بلغة شعبية عراقية جنوبية تعني : كيف نترك ساتر المواجهة مع داعش ونخالف وصية السيستاني؟!.
– اخذتني المشاغل وانستني كتابة هذا التعقيب حتى ذكرني احد طلبتنا الذين يدرسون في اميركا وقد عاد مؤخرا قال: “عند سقوط الموصل عام 2014 وتضارب الاخبار بوصول الدواعش الى حزام بغداد انتابنا خوف وقلق كبيرين وبتنا نتابع الفضائيات لحظة بلحظة حتى فجرت فتوى الجهاد الكفائي اجواء الفضائيات طاغية على جميع الاخبار، وفي اليوم الثاني التقتنا زميلة اميركية والدها عضو في الكونغرس الاميركي.. فتحت اللابتوب واظهرت صورة السيد السيستاني قائلة: (اي قوة يمتلك هذا العجوز مكنته من افشال المخطط الاميركي الهادف الى سقوط بغداد ثانية واعادة احتلال العراق وتقسيمه؟؟؟)”.