لا يخفى على الكثير من المختصين و المهتمين بعلوم الحياة (البيولوجي) اهمية وكثرة و تنوع الفروع العلمية و التخصصات التي تقع تحت خيمة علوم الحياة ومما لا شك فيه ان معظم المهتمين و المختصين و الباحثين في مجالات هذه العلوم يدركون ان اي من هذه العلوم تتطور بسرعه كبيرة شانها في ذلك شان كل العلوم الاخرى . كما وتتداخل الكثير من فروع هذا العلم وتتشابك بعضها مع بعض لدرجه كبيرة جدا وهو امر طبيعي اذ لاحدود فاصلة بين فرع علمي و اخر من الناحية العملية، ولكن من الناحية النظريه او من ناحية التسميات و المسميات والمصطلحات فربما نجد احيانا ما يفصل بين فرع و اخر او بين تخصص واخر خصوصا اذا رجعنا الى تعريف مصطلح التخصص حسب قاموس اكسفورد وهو “الحاجة إلى معرفة خاصة وعمیقة بموضوع معین أو فرع معین من المعرفة” حيث يعده الكثيرين مفهوما تنظيميا معرفيا اساسيا، حيث يتم من خلاله التاسيس لتوزيع و تقسيم العلم و المعرفه الى حقول و ميادين علمية متنوعه، حيث تشير الادبيات العلمية الى ان التخصص يتجه عادة نحو الاستقلالية وذلك من خلال حدود مرسومة و مصطلحات لغوية موضوعه ونظريات و تقنيات محدده. ولا بد من الاشارة الى ايجابيات الاخذ بمبدا التخصص العلمي بشكل عام حيث ادى الاخذ بمفهوم التخصص الى ابعاد العلوم عن الغموض و السطحية وساعد الباحثين و العلماء على اخذ دورهم في تنمية و تعميق تجاربهم و بحوثهم وحث طلابهم على تحديد اهدافهم واهتماماتهم والسعي وراء البحث والخوض بالتفاصيل الجزئية الدقيقة.ومن المنطقي ان يرتبط ظهور التخصصات مع بداية نمو و تطور الجامعات في العالم والذي طالما ما اقترن بتطور المجتمع بشكل عام، ومن ثم اخذ مفهوم التخصص يتطور و يمر بمراحل بناء مقوماته التنظيمية مع تقدم و تطور البحث العلمي وهذا ما يجعلنا نؤمن ان التخصص خاضع للتطور و التقدم و التغييرربما الدمج احيانا.
ولان تاريخ التخصص العلمي ارتبط مع افتتاح الجامعات و تاسيس الاقسام العلمية فقد قمت بقراءة و تحليل التخصصات العلمية لبعض اقسام علوم الحياة الموجودة في الجامعات العراقية و بالشكل الاتي
اولا: رسائل الماجستير و اطاريح الدكتوراه و المنشورة عناوينها و احيانا ملخصاتها على المواقع الرسمية الالكترونية للاقسام العلمية التابعة للجامعات. حيث تم الاعتماد على عمل احصائيات خاصة بقسم علوم الحياة جامعة بغداد والذي يعد واحدا من الاقسام العلمية العريقه في جامعه بغداد وهو اول قسم يستحدث دراسات عليا في تخصصات علوم الحياة حيث بدا فيه التسجيل للدراسات العليا في العام الدراسي 1966-1967. يعنى هذا القسم بتخريج الطلبة في التخصصات الرئيسة الاربعة وهي علم الاحياء المجهرية، علم الحيوان ، علو النبات و علم البيئة و التلوث. وتشير الاحصائيات الى احتلال علم الحيوان المرتبة الاولى بعدد المتخرجين من هذا التخصص مقارنة بالفروع الاخرى ولغاية عام 1984 ، بعد ذلك اخذ فرع الاحياء المجهرية بالتفوق من حيث عدد خريجيه شيئا فشيئا الى الحد الذي بلغ فيه الصدارة و الى يومنا هذا بينما بلغ فرع البيئة والتلوث و فرع علم النبات اقل مستوياته مقارنة بالفرعين السابقين و ربما يعود ذلك لكون ان المهتمين بعلم النبات بشكل عام هم من ينتمون الى كلية الزراعه اما عن البيئة فان معظم طلابة كان يدرسون ضمن عناوين علم الحيوان وذلك للتداخل الصريح بين علم البيئة و علم الحيوان التقليدي، حتى استقل كفرع بذاته في العام 1991 و بدء التقديم له بصورة مستقلة حيث اخذ ياخذ حدوده وملامحه بشكل افضل. ولكن الارقام التراكمية منذ عام 1966 ولغاية العام 2010 وهو اخر ماحصلت عليه من بيانات، تشير الى تفوق علم الاحياء المجهرية بكافة عناوينها على بقية الفروع الاخرى.
ثانيا: تحليل البحوث المنشورة في المجلات العراقية العلمية المحكمة والتابعة لوزارة التعليم العالي و البحث العلمي و المنشورة على محرك البحث العلمي العراقي المتخصص “المجلات الاكاديمية العلمية العراقية” حيث تم شمول 3662 بحثا منذ عام 2005 وحتى عام 2012 حيث اشارت نتائج هذا التحليل الى سيادة تخصصات الاحياء المجهرية و المناعة و الطفيليات والتلوث على حساب قلة في تخصصات الطيور و القواقع و الحياة البرية والتاريخ الطبيعي و المتحجرات والتنوع الاحيائي والمحميات الطبيعية .
ان التفوق في اعداد خريجي و بحوث علم الاحياء المجهرية بكافة تفرعاته وعناوينه ربما يعود الى كون هذا الفرع قاسما مشتركا مع كليات اخرى ومعاهد مثل كلية الطب البشري والبيطري وكلية الصيدلة و المعاهد الطبية الفنية، ناهيك عن كم المختبرات العلمية الطبية الاهلية و الحكومية التي يمكن ان توفر سوق عمل جيد للمتخصصين في هذا المجال في حين لا يمكن ان يتوفر سوق عمل بنفس النسبة للمتخصصين بتخصصات البيئة و التلوث او النبات ولكن هل يكون سوق العمل وحده هو حافز الطالب نحو التوجه للتخصص العلمي المطلوب ام ان هناك عوامل اخرى تؤثر على توزيع و سيادة تخصصات على حساب تخصصات اخرى. الا يحتاج الوسط العلمي العراقي الى المزيد من الباحثين والمزيد من النشريات في مجال الطيور او القواقع او التاريخ الطبيعي او التنوع الاحيائي، هل المشاكل الموجوده هي محصورة فقط في مجال الاحياء المجهرية و تفرعاته و علم الطفيليات و تفرعاته الا توجد مشاكل يجب ان يتوجه الباحثون الى حلها في مجال بيئة هذه الطفيليات و الاحياء او في مجال الحياة البرية التي قد تحتضن افات و امراض ، الا يشكل موضوع التحري عن الانواع المهددة بالانقراض مشكلة حقيقية في بيئة مثل بيئة الاهوارالتي عانت ما عانت او في غير بيئة الاهوار او دراسة استحداث محميات طبيعية او تاثير التلوث على انواع النباتات والحيوانات كمصادر طبيعية وكل هذا لا يعني عدم وجود مثل هذا التوجه في الدراسات الا اننا نحتاج الى ما يعزز و يرسم ملامح واضحة لمثل هذه المشاريع والى دعم مادي حقيقي للباحثين في هذه المجالات.هنا يبرز دور الاستاذ و الباحث الذي لا بد من ان يلعب دور الموجه لطلابه ابتداء من طلبة الدراسات الاوليه صعودا، لان المتخصص يجب ان يعي ويطلع على المشاكل التي تنتشر هنا وهناك و ان يسعى الى حلها من خلال مشاريع طلبة الدراسات العليا او مشاريع البحوث المختلفة ومن خلال زرع الحافز و الاهتمام بمثل هذه التخصصات ولا يقتصر ذلك على التواجد في المختبرات و تكرار الافكار. ولا بد من الاشارة ايضا الى الدور المؤسساتي ايضا حيث ساعد توظيف التخصص العلمي في معظم دول العالم المتطوره الى حل الكم الاكبر من المشاكل وتحقيق الاهداف المهمه في الكثير من المجالات ، وهنا اشارة الى الدور الذي يمكن ان تلعبه وزارة التعليم العالي و البحث العلمي في تحقيق ذلك من خلال الاعداد لخطط مستقبلية تخلق جوا من المواءمة بين الداخلين للدراسة الاولية او للدراسات العليا وبين تخصصاتهم العامه و الدقيقة مع مراجعة لمخرجات التعليم العالي ومقدار علاقتها مع برامج وخطط التنمية. اما عن معايير الجودة التي كثر الحديث عنها في الوقت الحالي فان الاعتقاد بات يقينا بضرورة ادخال موضوع اهمية التخصص باعتباراته المختلفة في منظومه الجودة التي باتت واحدة من الاركان الاساسية في الجامعات العراقية و ذلك من خلال رفد سوق العمل بتخصصات يحتاجها وهو جزء من اهداف منظومة الجودة بالاضافة الى حل كم المشاكل سالفة الذكر عن طريق المساهمة في بناء ما تحتاجه هذه المشاكل من تخصصات جديدة كما ونوعا ولا بد ان تبين منظومة الجوده هنا قدرتها على ايجاد العلاقات بين التخصصات المختلفة بالطريقة التي تخدم فيها السوق والمجتمع بالاضافة الى مساعدة الباحثين والطلبة و مشرفيهم من خلال تمكينهم من استخدام التكنولوجيا الحديثة واخر ما توصل اليه العلم في مجال التخصص لكي لا يفقد التخصص قيمته و يبقى محافظا على ملامحه المهمه التي من شانها رفع قيمة ومستوى البحث العلمي في الجامعات من اجل تحقيق الجودة التي تسعى لها المؤسسة العلمية.يمكن عد التخصص العلمي واحدا من اهم مخرجات العملية التعليمية لذا يجب ان نوليه الكثير من العناية و الاهتمام وان نراعي التنوع فيه اعتمادا على مدى و طبيعة التنوع ضمن اهداف المؤسسة العلمية التعليمية ناهيك عن فاعليتة هذه المؤسسة واسهاماتها و كفاءة المختصين فيها ضمن تخصصاتهم كل هذا يجعل المؤسسات التعليمية تتبنى بعض من هذه التخصصات دون غيرها.
ولكن يبقى السؤال الاهم ماهي المعايير اللازمة او الضرورية لتحديد التخصص وخصوصا التخصص الدقيق ، لان هذا الموضوع كان و ربما بقي كاحد المواضيع المثيرة للجدل في الاوساط العلمية او الجامعية لذا فان المضي باتجاه تحديد هذه المعايير بات ضروريا جدا واعتماد ان يكون المتخصص حاملا لمقومات التخصص و موفرا لاغلب واهم مقوماته وادواته واجهزتة وتقنياته فمثلا لايمكن للشخص ان يكون متخصصا بعلم معين و في مختبره لا توجد كل او معظم الاجهزة والمواد التي تجعله متمكنا هو و طلابه ان يبحث في هذا المجال.