في تلك الليلة كان الجو شديد البرودة ,فهذه ايام( الازرك) , وكعادة المسنين ينامون مبكرا ويصحون من نومهم بعد منتصف الليل , فتح عينيه ولم يستطيع النهوض , رغم انقطاع قطرات المطر عن التساقط وانجلاء الغيوم وبدت النجوم الليلية تتلألأ في سماء سومر الصافيه , فقد شعر بنحول عام في جسده النحيل , ففضل البقاء تحت دثاره البالي , كان في مثل هذا الوقت يخرج لاصطياد السمك بسنارته من نهر الفرات , فلم يعد يقوى على رمي الشبكة المثقل محيطها الدائري بالرصاص , ومنذ أن جفت ضفاف الهور هجرت الطيور التي كان يصطادها قريته , ولم يعد يطيب له مأكلها , فقد ماتت خلايا التذوق في فمه, كان يكفيه لسد رمقه كسرة رغيف مع بعض التميرات, كان يخرج للصيد ليسلي نفسه ويشاغلها عن ذكريات الماضي المؤلمه , عن ولده الوحيد سمير الذي فقد في الحرب العراقية الآيرانية منذ ثلاثة عقود ,فلا زال ازيز الطائرات واصوات الانفجارات تدوي في اذنيه , عندما ذهب الى نهر جاسم يسأل عنه , حيث طمر هذا النهر بجثث الجنود, ومافاض منها اصبح متاريسا للنزر القليل , عندما انقذهم القدر ليبرهن ان ديمومة الحياة اقوى من ارادة الطواغيت, وعند عودته مر بالبصرة ،عبر شط العرب فقد خلا من صواري السفن سوى بعض الغوارق التي تعيق مجرى المياه فيه, وكان قد هجرها معظم اهلها, فالقوات الايرانيه اصبحت على بعد عشر كيلومترات, وقصف الهوانات اصبح يطال جميع احيائها , ومن هناك ذهب الى مركز تسليم الشهداء, وكان يلف يشماغه على انفه وفمه وطواه فوق عقاله , كعادة الجنوبين عندما تلم بهم نائبه تفقدهم الابتسامه التي اعتادوا عليها, ومع ذلك فان عفونة الجثث الممزقه كانت تسبب له الدوار, وهو يكشف ماتبقى من معالمها لعله يجد فيها مايدله على ولده, وكانت النتيجه ان عاد بخفي حنين, وبعد نهاية الحرب, كان يذهب الى البيت كل أسير قدم من ايران , ليسأله عن ابنه , وسقط النظام في العراق, وعاد جميع الاسرى من دون ان يحصل على اي خبر عن مصير فلذة كبده, ومع ذلك لم تفارقه النية الصافيه, رغم الكوابيس المليئة بالخوف والقلق والبؤس , بقيت تحدوه بارقة الامل , فكان في كل فرض صلاة يدعو الله ان يعيد إليه ولده, فقد آمن بعودة يوسف الى يعقوب بعد ان احدودب ظهره وعمي بصره, فهو لا يريد اي متاع من الحياة , فقط ان يلقي نظرة واحده عليه ويحتظنه من الاعماق, ثم يفارق الدنيا , وهو مرتاح البال. تمر هذه المآسي جميعها كل يوم كانها شريط احداث , وتبدأ دموعه تنهمل على خديه حتى تبتل لحيته, ويزيدها شجآ وحرقه حيث يلتقي الالم المكبوت والذعر مع لوحات من ذكريات جميله , عندما يتذكر سمير من طفولته الى صباه, وكيف كان يأتيه (بالطبك) الذي نسجته امه من الحلفه وخوص النخيل , عليه بعض رغائف من الخبز وتمر و (قوري) الشاي يحمله بكلتا يديه كانهما جناحي عصفور, تعلوه الابتسامه باديآ عن انشراح واضح للتعبير عن سروره لرؤية والده , الذي يعمل في بساتين القرية, يعمر الارض او يقوم بتلقيح النخيل اثناء فصل الربيع , فهم لا يملكون ارضا خاصه بهم فقط كانت لديهم دار في القرية يحيطها حوش من القصب وفي احد جوانبها كوخ من الطين , كانت تلك الايام أجمل سني عمره المديد, فقد اكتملت سعادته , وماعرف الهم والحزن والاسى طريقا الى قلبه قبل ان يبلغ سمير سن الثامنة عشرة من عمره, ويلتحق بالخدمة العسكريه الالزاميه , عندها اتى الشر بلا اقنعه , متغلغآ في اقدس ثنايا حياته, يومها لم تكن الحرب قد بدأت , ولكن الامر مقلقا له فقد ألف حياة الحرية, فكيف يصبح عبدآ مامور , كيف يستمع الى عبارات الاحتقار والاستخفاف من الضباط, وهو ثمرة زواج مقدس , نمى عن اجمل علاقة عشق عذري , مع امه زهرة ابنة احد
الفلاحين الذين كان يعمل في ارضهم , جمع مهرها من كد سني شبابه, فكان يحرث الارض اثناء الليل , ويرمي قليلا من الماء على الحجارة المتصلبه من شمس العراق المحرقه, لكي لا تظهر صوتا عندما يفتحها بمطرقته الخشبيه الكبيره, ويعكر سكون الريف , ويزعج النائمون فيه بالاسحار , وهو بذلك يداري امرا آخر, يخاف ان يحسده الناس عندما يرون قوة جسده ومثابرته في العمل , كانت زهرة ام سمير فيما بعد , اعتادت على النهوض مبكرا لتتفقد الابقار بعد انبلاج الفجر , وقبل شروق الشمس, فتدني العجل الحديث الولادة من امه, كي ترضعه قسم من الحليب , ثم تبعده عنها بعد ان استدرت اخلافها ,ثم تتمم عملية الاستحلاب بأناملها الرقيقه , وكان قلب ابي سمير يكاد يخرج من صدره من شدة خفقانه, عندما يراها قادمة كانها وردة تفوح بالعطر والجمال , تتهادى بين اشجار النخيل الباسقة , وحقول الشعير المتموجه سنابله مع نسيم الصباح , ولا تطيب نفسه ويهدء روعه, الا عندما يتبادلان التحيه بقولها( صبحك الله بالخير)ويرد عليها( صبحج الله بالخير و العافيه) , كان عاشق غيور لم يستثمر تلك اللحظات الشاعرية في غرام يتخطى حدود مجتمع ريفي تسود فيه (النهوه و الفصليه و الكصه بكصه) , كان يتغزل فقط برمش عينها , كأنهما جناحا فراشه ملونه.
اما هي فكانت تهطل عليها أمطار الحب كلما شاهدته صباحا، فتهاوت مقاومتها واسلمت الامر الى قلبها النابض باعذب نبع شوق , والملتهب بحرارة همس صافيه .
زهرة لم تدم ايامها طويلا , بعد فقد ولدها , فهي لم تكن كالثواكل من نساء العراق اللائي فقدن ابنائهن بالحرب, بل كانت ترى ان الزمان قد سحق ماتبقى من وردة الحب, واحرق اهداب عيونها بنيران الحقد, واصبحت شفاهها المقددة بالاشواق منتحرة, تنهض صباحا فلا ترى قرة عينيها , فتتراشق دموعها لتغسل بها وجهها بدل الماء, وتبدأ بشهقاتها غير المسموعة , فيشفق عليها ابو سمير فيبادلها النوح بأنين يذيب الصخر , ويستمر مأتمهما هذا كل يوم, وتعاود احيانا لهذا الطقس في جوف الظلام , ولم يفتر خيالها ولا عاطفتها , فقد إغتيلت البهجة و السعاده , واصبحت تموت كل يوم عشرات المرات الى ان التحقت بربها تشكو إليه حرمانها . هذه الذكريات المؤلمة بدأت تعصر قلبه المرهف, فضاق صدره , رمى الدثار عنه واستخدم كل قواه منطلقا باتجاه باب الكوخ الى ساحة الحوش فاتحا ذراعيه , آخذا الهواء الطلق بشهيق عميق وبعدها استلقى على الارض من شدة الاعياء, بدأ جسمه ينضح عرقا, وانفجر أنفه بقطرات من الدم , لحظات حتى هدأ, واذا بصوت مؤذن القرية الشجي زاير عباس يخترق السكون ليوقض النائمين , داعيهم الى الصلاة, تقدم خطوات نحو ابريق الماء البارد , وتوضأ للصلاة , وعقب صلاته بالبكاء والدعاء, أحس باقتراب المنية وسال الله اللطف به.
ثم تناول سنارته واشتمل بعباءته الوبرية الثقيلة , وذهب الى نهر الفرات يصطاد السمك , رمى سنارته بعدما وضع طعما للسمك فيها , وانتظر ساعة , واذا بسمكة تجر خيط السناره من يده بقوه , بدأ يسحب الخيط بكلتا يديه وبسرعة , والسمكة تقاوم وتضطرب و تضرب الماء بذيلها , لتقفز للأعلى وتعود الى الماء ثانية لعل هذه الحركة تخلصها من نصل السنارة الذي انغرز في خياشيمها , الى ان سحبها الى جرف النهر , في تلك اللحظه بدأت الشمس تشرق وبدأ قرصها يعلو سعف النخيل في الضفة الاخرى للنهر , وحالما أخرج السمكة من الماء سقطت أشعة الشمس عليها فتلالأت اصدافها, وبدأت امواج النهر تتراقص على ضيائها , كانها العاب نارية
في حفل عيد الميلاد , انها من النوع المنقرض منذ بداية الحرب العراقية الايرانية إنها ( بنية ), تفاجىء ابو سمير بها , فلم يشاهدها منذ عقود , فكأنه كان على موعد معها , تفائل بهذا الوافد الذي رحل من نهر الفرات الخالد يوم غاب ولده سمير , امسكها بكلتا يديه يدقق النظر فيها , وكأنه امسك باحدى حوريات البحر . في هذه الاثناء شعر بالوهن , اراد ان يحرك رجله اليسرى فلم يستطع حاول ان يعين نفسه بيده فخذلته كرجله , حينها شعر إن حياض الموت قد اقتربت , واوشكت وقعاته ان تنتهي ألم السنين الخوالي , فتمدد باتجاه مجرى النهر , ولم يكترث لشيء سوى كيف يعيد السمكة الى النهر , حاول ان يخرج السناره من خياشيمها ثم يدفعها نحو النهر , لتتخذ طريقها نحو النهر عجبا .