لا يجد معلم اللغة السريانية (سامر الشيخ) بُدّاً من التمسّك ببارقة أمل وإن كانت ضئيلة بالعودة مجدداً الى منزله الذي تركه في مدينة الموصل غنيمةً لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بينما يمضي حياته مستسلماً لتفاصيل النزوح اليومية التي اجبر عليها في محافظة أربيل بإقليم كردستان حيث استقر به المنفى مع عائلته.
كان يظن بادئ الأمر أنها مجرد انفلاتة أمنٍ عابرةٍ وستعود قوات الأمن العراقية لشطبها من شوارع الموصل ليتمكن من العودة الى مدرسته وطلابه في منطقة الدواسة وسط المدينة تماماً مثلما كان يحدث باستمرار منذ انهيار النظام العراقي في 2003. ولكن الحال اختلفت هذه المرة.
يسترجع سامر بحزن ذكرى سيطرة داعش على مدينته في العاشر من حزيران 2014، والبيان الذي أصدره التنظيم بوضع خيارات ثلاث أمام المسيحيين “الإسلام أو دفع الجزية أو ترك المدينة وما يملكونه”. وقال بلهجة موصلية نقية “رفض رؤساء الطوائف خيارين ولم يكن أمامنا سوى الرحيل بثيابنا التي علينا مثقلين بالحزن وذكرياتنا”.
“ولم يكد يمر أسبوع على تركي للمنزل حتى أقدم عناصر من داعش على رسم حرف النون باللون الأحمر على جداره وباعوا أثاثنا وباقي مستلزمات المنزل في سوق الغنائم” يقول سامر.
حدث هذا مع جميع منازل المسيحيين المنتشرة في أحياء العربي والحدباء والسكر والمهندسين والزهور والمجموعة والساعة والدواسة والميدان وحوش البيعة، وبعدها بشهرين وتحديداً منذ السادس من آب 2014، وتكرر ذلك في بلدات المسيحيين في قرقوش وبرطلة وكرمليس وتلكيف شمال وشرق الموصل.
فأصبحت نينوى وللمرة الأولى منذ ألفي سنة خالية تماماً من المسيحيين ولم تعد تقرع فيها نواقيس الكنائس أو يحتفل فيها أحد بأعياد الميلاد ورأس السنة واختفى بابا نوئيل عن شوارعها تماماً. وهو ما ذكره صراحة بطريرك الكلدان في العراق والعالم لويس ساكو بقوله “لأول مرة في تاريخ العراق الموصل فارغة الآن من المسيحيين”.
وصحح سامر المعلومات المتداولة إعلامياً بشأن الاعتداءات على المسيحيين وأملاكهم وأشار إلى أن عمرها أطول بكثير من العاشر حزيران 2014 إذ كان لتنظيم داعش ومنذ تشكيله في منتصف تشرين أول 2006 أذرعاً عبثت بالعقارات في نينوى ولاسيما التي تعود ملكيتها إلى مسيحيين مغتربين.
يؤكد ذلك وبحماسة شديدة محامي العقارات المتخصص (أحمد فتحي)، وبيّن أن نقل ملكيتها كان يتم بواسطة محكمة بداءة الموصل بسبب توقف نقل الملكية في دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيسر لمدينة الموصل حيث تقطن الأغلبية العظمى من الأقليات وبينها المسيحيون. وهذا بعد أن قتل التنظيم مديرين متتالين لهذه الدائرة مع ثلاثة موظفين وهدد بالقتل الباقين في حال روجوا معاملات نقل الملكية.
ولخص دعوى التمليك واصفاً إياها بالصورية من خلال توجيه المشتري المفترض إنذاراً إلى البائع على أساس أنه مجهول محل الإقامة ويتم نشر تبليغ بذلك بواسطة جريدة محلية، ومن ثم تنظر المحكمة الدعوى بوجود طرف واحد فقط، ويصدر القرار غيابياً بحق الطرف الآخر.
يتابع المحامي انه بعد كسب الدعوى من قبل المشتري وهو غالباً ما يكون من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية ويتعامل بذلك لصالحه، كان العقار يباع بنحو رسمي الى مالك جديد وتذهب الأموال الى التنظيم.
ومع اشتداد قوة التنظيم حدد في سنة 2010 نسبة مقدارها 25 في المائة من قيمة بدل بيع اي عقار مباع تعود ملكيته الى مسيحيي في الموصل وسجلت أحداث تلك المدة مقتل ثلاثة مالكي عقارات مسيحيين في مناطق متفرقة من المدينة بعد فترة وجيزة من بيعهم عقارات يملكونها.
وشاع في تلك المدة أيضاً قيام المسيحيين بترويج معاملات بيع عقاراتهم خارج مدينة الموصل في محاكم تلكيف أو قرقوش البدائية وتسلموا بدلات البيع بطريقة سرية لكي لا تفطن عيون التنظيم الى ذلك ويتقاسم مع البائع حصته أو يهدده بالقتل للحصول على إتاوة.
وفي عام 2013 عاد التنظيم ليمنع بيع وشراء أي عقارٍ تعود ملكيته الى مسيحيين باعتبار انها من ضمن أملاك الدولة الإسلامية وكانت تلك رسالة لم تفك الجهات الأمنية شفرتها من أن داعش كان يستعد للسيطرة على الموصل ومحيطها.
وبعد احتلاله الموصل في العاشر من حزيران 2014 الحق التنظيم عقارات المسيحيين بما يسمى (بيت المال) ووضع إشارة حرف (نون)على جدرانها وهو الحرف الأول من كلمة (نصراني) التي يسمي بها السلفيون المتشددون المسيحيين في العراق.
وسحب سجلات ملاحظية التسجيل العقاري في قضاء الحمدانية (قرقوش) وكذلك ملاحظية التسجيل العقاري في قضاء تلكيف (شمال الموصل) وأفرزت العقارات التي تعود للمسيحيين ونقلت ملكيتها الى الدولة الإسلامية في العراق والشام.
وقام التنظيم بالأمر ذاته وتعقب أملاك المسيحيين منقباً في سجلات مديرية زراعة نينوى والشعب الزراعية في باقي البلدات بحثاً عن أراض ومشاريع زراعية ومقر اتحاد الصناعات عن المشاريع الصناعية وغرفة تجارة الموصل عن التجار ومكائن المشاريع في دائرة كاتب العدل والمركبات في مديرية المرور.
كما أن أراضي تعود ملكيتها منذ القدم لعائلات مسيحية في منطقة(حاوي كنيسة)على الضفة اليمنى لنهر دجلة في الموصل تحولت خلال سنة واحدة من عمر خلافة داعش الى مساكن عشوائية شكلت مجموعة قرى اكتظ بها مئات من القرويين الذين وفدوا من خارج الموصل موالين للخلافة وجنوداً فيها.
(سامر) واحد من أولائك الذين يصعب فك ارتباطهم بالمكان الذي ينتمون إليه وطوال سنة وشهرين وثلاثةٍ وعشرين يوماً قضاها مع طفلتيه وزوجته في عينكاوا بمحافظة أربيل لم يقطع حبله السري بالموصل ورصد من خلال وفاء جيرانه عبر (فايبر وسكايب) حركة شاغلي منزله من مسلحي داعش وفد بعضهم من ناحية القيارة (60كم جنوب الموصل) أو الشرقاط (قضاء تابع لمحافظة صلاح الدين).
رقص كالمجنون لأخبار مقتل عدد منهم ووزع حلوى محتفلاً بعقاب الرب وبكى مثل طفل صغير عندما علم بتفجير مدينة نمرود الأثرية وتدمير آثار متحف نينوى الحضاري وعاش صدمة ذلك مدة من الزمن.
سامر مثل أفراد (1154) عائلة مسيحية نزحت من الموصل في حزيران 2014 لا يستطيع أن يصدق أبداً أنه فقد مدينته وأن عليه أن يفكر جدياً بالتأسيس في مكان آخر، فهؤلاء جميعاً رفضوا لسنوات طويلة الالتحاق بقافلة الهجرة المسيحية الطويلة من الموصل بدءاً من عام 2003، وقرروا التمسك بجذورهم الممتدة لألفي سنة وجاء داعش ليضع بالسيف حداً لذلك.
وذاقت هذا الوجع كذلك وبحسب إحصائية أعدت عن طريق الكنيسة (6377) عائلة من مدينة قرقوش20كم شرق الموصل و( 1338) عائلة من برطلة (15كم شرق الموصل) وقريباً منها حيث بلدة كرمليش نزحت (742) عائلة.
فيما استقبلت محافظة دهوك وبحسب إحصائيات رسمية ألفي عائلة والى قضاء زاخو على الحدود العراقية التركية نزحت(250) عائلة وتوزعت (350) عائلة في أقضية الشيخان وبردرش وعقرة وألف عائلة وجدت مستقرها في محافظة السليمانية.
يدرك سامر جيداً أن طريق عودته الى الموصل ليست سالكة وان صفحة الوجود المسيحي في هذه المدينة التي كانت لهم بالكامل ذات يوم تكاد تطوى الى الأبد خصوصاً بعد تراخي حكومة بغداد عن تحريرها واقتصار التدخل الدولي على قصف غير فعال وامتداد خط الهجرة للمسيحيين اليائسين ليبلغ منافي نهائيةً في أوربا وأمريكا واستراليا.
لكنه يبقي على خيط الأمل الرفيع بإدمان ملاحقة الأخبار وإشعال شموع كنسية وهو يدعو من صميم قلبه أن تقبض أسماعه مرة أخرى على دقات نواقيس موصلية وان يجوب مثل طائر حر أروقة مدينته كما فعل أربعاً وأربعين سنة عاشها في الموصل. (نقاش)