19 ديسمبر، 2024 6:00 ص

وطن في قلب  شاعرة قراءة نقدية في نص الاديبة السورية ميسون زيادة

وطن في قلب  شاعرة قراءة نقدية في نص الاديبة السورية ميسون زيادة

تمهيد
ويسكن الوطن فينا اكثر ما نحن نسكن فيه ، نتوجع حين يئن ، ننزف حين يجرح ،   وخناجر الطغاة مزروعة في خاصرته ، تمزق فيه وهو يترنح وحيدا في قلوبنا نحن فقط حتي صار جرحا مستديما في الروح  والقلب …. وفي مكان اخر يستمر المزاد لبيع  اطرافه واعضائه انتفاعا ، وهكذا صار الدم تجارة والموت علاجا حين جنح الوعي وامست الخيانة مهنة والعمالة شموخ وفخر وكبرياء….. انحسرت مفاهيم الاجداد وترنح العقال العربي حين تجددت اسواق الحريم وازدهر الوئد وبيع الاطفال من جديد فرحت الجهات الاربعة بهذا الخراب وشرعت ابوابها ليفر من يفر فوق بوصلة الزمن وتبعثر التاريخ وخرزات مسابح الراشدين فكان لكل عاتية حصة ولكل مكان ضحية…..
اختلط الزمان بالمكان حتى تطور الانتحار فينا ان يباع شعبنا العربي قطعان ماشية لارضاء المحتل من اخوية عربية تدفع ثمن الذبح والتهجير مقدما وهذا ضرب متطور من ضروب الانتحار وعودة حميدة لقابيل وهابيل ….مات العجب بالموت ومات الموت في العجب حين صار في كل باب مـأتم وفوق كل عقرب ساعة صلاة ، كبر خنجر بروتس وصار سيفا ، تطور طعنه وخلف سيوفا و خناجرا كثر تعمل  فوق الظهور والخواصر بنشاط واخلاص ، تتلقف صيدا لطفل هنا او شيخا او امرأة بريئة  هناك ، ترقى هذا الفعل الكترونيا وتكنولوجيا حتى اصبح مفخخات وقذائف هاون….مبروك لنا هذا التطور…..وكم اغبياء نحن حين نحطم اوطاننا ونقتل اطفالنا ونرسم علامة النصر بأصابعنا فوق الانقاض…….
ازداد عدد الانهار في وطننا العربي فصار في بلد الرافدين ثالث من دم يسقى الباسقات والارامل و في سوريا اخر يسقى الايتام والثكالى موتا و بؤسا وحرمانا وتشردا وذلا…..هذا وطني في زمن التطور والتكنولوجيا…. ولكنه يبقى وطني في قلبي مسقط رأس ووسادة نوم ، حليب طفل و رغيف خبز و مثوى جسد…..رغم انف الظلالة والعتمة………..
 
العناصر الجمالية في النص
انا لا امدح نفسي ابدا لصفة طبيعة ان تسود وصف لكل قاريء متذوق ،  منذ الصباح افتح نافذتي و اسرح في حدائق الله الالكترونية اتلقف هنا وهناك ازهارا ادبية من ادب رصين و اخر طاف في نهر الانحسار الادبي الذي هجر بحار الادب العربي واستعاض عن عظيمه  بكلمة ونصف وفي هذا الخضم المزدحم لاح لي بريق نص “وطني” ساحر جذبني اليه قسرا احبانا من ربطة عنقي واخرى من تلابيبي….قرات صاغرا وسمعت صراخا صامتا وليس كلاما فاستقر بي الموقف ان اجلس وافهم….ادركت من هذا الصراخ ان تلك الشاعرة ،امرأة قد انتهك وطنها وبيتها وهجرت كل شيء….رأيت في نصها شوارعا تنتشر فيها اشلاء الاطفال وجثث الابرياء…سمعت اصوات دوي مرعب هنا وهناك ، استوقفني وادهشني لون حروفها الحمراء فادركت ان الاديب العاشق لوطنه يضع وطنه في الطرف الاغلى من قلمه وقلبه في الطرف الاسف ليكت بدمه حبرا….تألمت كثيرا وبكيت  مع الاديبة الرائعة ميسون زيادة على وطن جميل مزقه الكذب والرياء و اذله المتخلفين و التخلف…
 يرافق النص مزمار راع اسطوري يعزف بألم يوقظ الوجع القديم ويضاعف الجديد ويثير الاشجان وكل المسميات الانسانية الا ضمائر من باعوا اوطانهم…كتبت الشاعرة المبدعة ميسون زيادة ،نصها بخلطة رائعة بين نظرية الفن للفن من ناحية الاسلوب …فقد اختارت كلماتها بدقة متناهية وعفوية انثوية فائقة وصاغت جملها الشعرية بحرفنة ملفوفة بقرطاس المحسنات البديعية لرسم صور وتشخيصات وتشبيهات من خلال كنايات بلاغية تشبيهية اعطت تلك الصور سمة فنية و جمالية عالية المستوى ، من اخرى حاصرها غيث الهموم  في وطنها الجريح ، احتمت تحت مظلة نظرية الفن للمجتمع وهذا هو مسلكها الاساسي المنشود في الكتابة فهو مجتمعها الممزق  حتى تخيلتها بخيال ناقد ان تلك الشاعرة المبدعة من فرط حبها لوطنها تروم التأسيس لنظرية جديدة ربما في الفن الادبي قد تسميها (الفن للوطن) ولو حصل هذا فعلا فانا اول المؤيدين وذلك لنشوء ظاهرة بيع الشعوب والاوطان وانتشارها السريع والفائز بمقبولية عالية من قبل حكام العرب….
اما البناء الفني للقصيدة ينحصر بين الواقعية المتجه نحو ريادة عالية في الترميز مع لمسة سريالية خفيفة تظهر وتختفي احيانا في بداية جملها الشعرية واحيانا في نهاية تلك الجمل ،ولكن الصفة الغالبة للنص هو نص رمزية بدرجة الامتياز…..اما الاسلوب قفد استخدمت الشاعرة ميسون زيادة اسلوبا سهلا ممتنعا بكلمات قصيرة ورؤية جمالية تجذب المتلقي لقراءة النص واتمامه حتى آخر كلمة لما يحوي من عناصر المفاجئة والجمال والتزويق اللفظي…اما الشكل العام للنص يعطي ميلا للقصيدة النثرية اكثر منه الى الترنيم في التفعيلة وعوض عن ذلك اثرت الاهتمام بالموسيقى الداخلية للنص وهذه سمة مهمة تمنح الشاعر فسحة وحرية كافية باقتفاء اثر المعنى بشكل اكثر من التفعيل والوزن..
   دعونا نأخذ رحلة رائعة في حدائق الشاعرة السورية المبدعة ميسون زيادة الغناء من الباب الامامي لنتعرف عليها عن كثب  :
 
أراك بغيوم الربيع
قوقعةٌ تسير حزينة
إما الحياة بعيدة
أو هما بعيدتان
حقيبةُ سفر
تعذر قلق الغياب
سفينة هاربة..
سفينتان

صورة مخملية رائعة  هنا ترسمها الشاعرة  ميسون زيادة يحرفنة واتقان  وصراخ صامت بريشة فنان  مبدع  وخبير بالالوان والفرق بسيط انها استخدمت الكلمات بعبقرية بديلا عن الألوان وهذا ما يظهرها شاعرة متمكنة من ادواتها باستخدامها للنظريات الادبية بذكاء حين فرشت نظرية الفن للفن بساطا وفراشا لاسلوبها المتمكن او ربما قاعدة للوحة التي ستنثر عليها صورها باحساس مرهف……اعطت ابعادا مرمزة  للوحتها بكنايات وتشبيهات ومحسنات بديعية رائعة و في هذا المقطع تنطلق الشاعرة مستذكرة زمن الربيع والسعادة حتى قبل حلول البلاء على هذا الوطن الجريح ….ترى الشاعرة الوطن يتحرك ببطء وبحزن كالقوقعة الحزينة وتلك كناية عن صفة التباطئء في السير من شدة الالام والجروح التي تعرض لها هذ الوطن السليب…ويستمر بكاء الشاعرة فوق حروفها وهي تظهر بين شهقاتها الياس من الحياة… حين حل الموت بديلا لتك الحياة التي اصبحت بعيدة عنها  حتى امست تشردا وتشرذما وتهجيرا وحقيبة سفر…. يبرز في هذا المقطع خياران و تقفل الدائرة ، اما بالموت او ركوب الهروب في مطايا السفر والخلاص….تثني الشاعرة قضبان رموزها  قليلا لتعطي امتدادا لغيرها من ابناء جنسيتها وهي صورة في التعرض لتأخذ الحالة الشعرية بالتعميم بديلا للتخصيص وكذلك اقران حياتها بحياة وطنها فهما فيها حياتان وان اضفنا لهما طفلا ستكون ئلاث حيوات  بقصد التعميم …او تثني صيغة التفرد اشارة للوطن مرة و لطفلها اخرى ، ربما الذي لم يولد بعد فتقول (بعيدتان , سفينتان) وهذه صفة غالبة على القصيدة  عموما ترافقها حتى النهاية…
لا زلتَ في حلمي
شاطئ بحر صيفي
هادئٌ.. هادئٌ
ثم يثورُ برياح غربية
لا أدري لم البركان
خريفٌ تتساقط أوراقهُ
أعده ورقةً ورقة
وسنيَّ عمري سنةً ..سنة
تهرب صفراء بلا استئذان
مطر الشتاء يحفّزني للانطلاق
ثمّ الهدوء … السكينة

يحمر وجه الشاعرة  غضبا من شدة ما حصل فتمد يد ذاكرتها عميقا بوميض بعيد من الذاكرة ، استدعاء لذكريات جميلة مؤسرة كثيرا لتعطيها كمية كبيرة من الذكريات السعيدة لتكافئ كمية القهر المقيمة على الابواب ولكي توازن بين الكفتين، الحالة النفسية التي يحتاجها الانسان لازالة الاصباغ الداكنة التي تعلق في الذاكرة من خلال خلق غزو جميل لها بذكريات جميلة وهذا الحالة تعمل ايضا باخلاص في منطقة العقل حبن يمر الانسان بحالات حزينة ومؤلمة لم يراها من قبل ، فيتم هذا الاستدعاء ليحضر من غياهب الزمن الجميل الذي عاشه الانسان سلفا ، فيحضر عندها ( شاطيء البحر بالصيف وبحر هاديء … ) صورة رومانسية مغالى فيها كثيرا لتردم حفرة الحزن العميقة التي حفرتها الحرب في واقع شاعرتنا المهموم وهذا رسم شكسبيري للصور الشعرية يذكرني بنظرية المكافيء الحسي للأديب  الانكليزي T.S.Eliot) ( حول الصراع الداخلي مع المحسوسات من احداث وكوارث في شخصيات شكسبيرفي مسرحه الشعري وكيف تعامل معها هذا الشاعر بعبقرية المكافيء ….وبنفس الطريقة تعاملت شاعرتنا العبقرية ميسون زيادة حين استدعت مكافئات  كافية لحوادث سعيدة استطاعت ان تغطي كمية المحسوسات من حوادث حاضرة مفجعة لتخفف وطأة الالم والضغط النفسي على عقلها…….
تشير الشاعرة هنا وتصور مرة اخرى بانتقاله ذكية من الربيع نحو الخريف و انحسار الجمال وصور البحر التي تستبدل بالبركان الذي سيبدا بالثورة حتما حتى يتساقط الابرياء كتساقط اوراق الخريف الذابلة …صورة متمكنة ترسم بدقة لاهوال الحرب وهي كناية بلاغية دقيقة للمقارنة بين ثوران البركان وقيام الحرب فكل منهما يخلق استدعاء للموت والدمار وكأن الشاعرة تقول بايقاعها الحزين ، ان تلك المقارنة اخذت من عمر الشعب السوري والعراقي الكثير ومن سنوات العمر للذين نجوا وهم لايزالون مشروعا في طابور الموت دفاعا عن هذا الوطن وتخليصه من الظلم واعادة الهدوء والسكينة الى ربوعه من جديد…..
أتحد مع الأرض
تعود الدماء الجديدة
ربيعٌ يزهر..
في عينيّ زهرتان
أنت وأنا
غيمةُ أرنبٍ تحمل طفلاً
ببراءتك..
يشبهك وطني
أخشى أن يقفز.. يهرب
صخبٌ حولي..
وحياةٌ تمضي
لا أدري متى أكون لك
ومتى تكون لي؟
متى نعود لحناً واحداً
أغنيةً..
لروحين تملأان كيان

اظن ،هنا ، ان الشاعرة الرائعة ميسون زيادة  تحلم وهي تخاطب جنيننا في احشائها او طفلا يصحبها لكونها هنا تشير باصبعها نحو (الاتحاد مع الارض) وهو رمز للنماء والتوالد والحيوات الجديدة في مخلوقات الله عموما والاطفال خصوصا  والمستقبل وتشبه ذلك اي المولود بالزهر وعموميها زهرات في التكاثر المعمم باتجاه المستقبل….. وتؤكد ذلك الحلم مرة اخرى (بعبارة زهرتان انا وانت) و تميل نحو طبيعة الوطن المحطمة من غابات وحيوان ونباتات واطفال قد سحقت الحرب قدسيتها وبكارتها و برائتها … وتحلم الشاعرة الخادرة في بحار الالم ، بصور الاطفال والطبيعة ان تعود للوطن بعد انحسار هذه الهم الثقيل حينما تشيه الوطن بطفلها الذي ولد بريئا كبراءة الوطن …. تخاف عليه ان ينتهك من جديد من المشاكل المحيطة به والتي تحدث للاوطان المجاورة وهذا ما شارة اليه الشاعرة بعبارة( صخب حولي)
 و تحتل نبرة الخوف حروفها وشخصها من اثر الفوبيا التي خلفتها الحرب في نفسية الشاعرة كرمز جمالي للحذر من عودة الحرب مرة اخرى لان عودتها ضياع  لكل شيء كما ضاع  الوطن والانسان سابقا…وتختم الشاعرة المبدعة صراخها وعويلها وبكائها المر على هذا الوطن بتساؤلها(متى تكون لي) وهنا تشير الى خوفها المستديم من ضياع وطنها وحلمها الملهوف بعودته مرة اخرى لتكون هي وهو وذاك الطفل لحنا واغنية واحدة يعزفها الزمن على قيثارة السلام والامان في وطنها العزيز…….
.رحلة امتعتني لكنها احزنتني بنفس الوقت لان تلك الشاعرة الانسانة المرهفة بالحس الوطني والانساني النقي ، انها تكتب بقلبها وليس بقلمها وهناك حسرة ترافقها في كل حرف تكتبه…لا اخفيكم سرا ، كنت اتحسر وتألم بألمها وحشرجة  تقطع نفسي حين عشت معها القصيدة حرفا حرفا ، مرارا تمنيت ان لا اقرأ تلك القصيدة لقدرة الشاعرة الكبيرة في تحميل حروفها معاني لا طاقة للحروف بحملها من احزان وآلام……وتحملتها حبا بالوطن والابداع الكبير لتلك المبدعة……سيدتي الشاعرة الكبيرة ميسون زيادة ….اعتذر لك كثيرا لو اني لم اصل قرار حرفك العميق لذلك افضل الاختباء من قدرتك الشعرية الهائلة خلف اعمدة الترميز …عذرا ان لم ادرك مكنوناتك الداخلية ولم ادرك غمار بحارك العميقة ، فان نصك اكبر من قدراتي النقدية……سيدتي انت رائعة……
النص الاصلي
وطني
ميسون زيادة

أراك بغيوم الربيع
قوقعةٌ تسير حزينة
إما الحياة بعيدة
أو هما بعيدتان
حقيبةُ سفر
تعذر قلق الغياب
سفينة هاربة..
سفينتان
لا زلتَ في حلمي
شاطئ بحر صيفي
هادئٌ.. هادئٌ
ثم يثورُ برياح غربية
لا أدري لم البركان
خريفٌ تتساقط أوراقهُ
أعده ورقةً ورقة
وسنيَّ عمري سنةً ..سنة
تهرب صفراء بلا استئذان
مطر الشتاء يحفّزني للانطلاق
ثمّ الهدوء … السكينة
أتحد مع الأرض
تعود الدماء الجديدة
ربيعٌ يزهر..
في عينيّ زهرتان
أنت وأنا
غيمةُ أرنبٍ تحمل طفلاً
ببراءتك..
يشبهك وطني
أخشى أن يقفز.. يهرب
صخبٌ حولي..
وحياةٌ تمضي
لا أدري متى أكون لك
ومتى تكون لي؟
متى نعود لحناً واحداً
أغنيةً..
لروحين تملأان كيان

أحدث المقالات

أحدث المقالات