تعودت الناس على جدلية ان العقل والتقنية هما صورة واحدة. وإنهما يمثلان بالنتيجة الإرادة وسيطرة التحكم أي ان العقل يقوم بدور الإرادة, بينما تقوم التقنية بدور السيطرة والتحكم في محيط الإنسان. إن خضوع العلم ( = التقنية ) إلى العقل ( = الإرادة ) وامتزاجهما في جينية وراثية هي التي تكون وراء صورة الشخصية الحقيقية, والقيادية للإنسان التي تتكفل بقيادة المجتمعات نحو النمو والازدهار.
لكن الكثير من القيادات الحالية سواء في العالم بشكل عام أو في العراق بشكل خاص لديها جدلية مختلفة وهي ان الشعب مصدر للسلطات كما هو نفسه مصدر للفساد والنزاعات والمنظومات المتعددة التي تشكل القواعد لثورات او تغييرات مستقبلية لايحمد عقباها , فلو توفرت لأي شعب ظروف ثقافية مغايرة لظروف الشعب الياباني مثلا أو الشعب السويسري أو الدنمركي من الناحية الاجتماعية فإنه سيتجه نحو الهدم والتدمير في جميع المجالات كما نراه في دول كثيرة من شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط بغض النظر عن جينية العقل والتقنية . بينما يرى أصحاب الرأي الأول أن فقدان جينية العقل – التقني هذه لدى ذلك الشعب هي التي تجعله مدمرا للحياة بكافة جوانبها ؟!
اهتمامنا هنا في هذا المحور من البحث الذي يبرهن على أن عددا لايستهان به من افراد أي حكومة – سواء كانت منتخبة أو جاءت إلى السلطة بثورة شعبية أو خلافها – يعتقد بهذا المفهوم وهو ” ان الشعب مصدر للسلطات كما هو نفسه مصدر للفساد والنزاعات والمنظومات المتعددة التي تشكل القواعد لثورات أو تغييرات مستقبلية لايحمد عقباها “. وهنا ينشط من يتبع هذا المفهوم في تلك القيادات فيلجأ لابتكار الوسائل القانونية لكي يفرّق بين ماهو عقلي وماهو تقني وترسيخه من اجل تجريم كل من يرى أن هذه القيادة أو تلك هي ليست مؤهلة لقيادة مجتمعاتهم بسبب التقصير المهني الذي يروه واضحا في معالجتهم للمشاكل الناجمة بسبب امتلاكهم لعقول متواضعة مما ينجم عنها معالجة تلك المشاكل بطرق سلبية تزيد من مساحة الفجوة بين القيادة والشعب . هذا التجريم للشعب يجعل القيادي يتكأ مرتاحا لفترة طويلة إلى أن تتفاقم المشاكل ثانية فيطاح بهذا الصنف من القيادة الفاشلة مما يؤدي إلى صحة الرأي الأول وهو أن العقل – التقني وراء التطور والنمو ,أما فقدانه فيخلف عواقبآ وخيمة , وهذا مايحدث الآن للمنظومات السياسية في العالم بشكل عام وفي العراق بشكل خاص .
إن ثنائية العقل والتقنية هو تعبير مختزل لعنصري الإرادة وسيطرة التحكم اللذان يتبلوران بالإنسان على اختلاف صفاته المهنية المتعددة. فالعقل هو كل مايطلق على عملية التفاعل التي تحدث بين النفس والروح ( = التفكير ) وهو يعتمد أساساً على مايثيره من البيئة الخارجية أو الداخلية سواء كان سلبيا أو ايجابيا , لذا فأنه يمثل المركز المنظم للشخصية القيادية للإنسان في حد ذاتها. ولكن لايوجد من يعرّف العقل من ناحية الشكل أو التركيب ,بمعنى هل هو شيء ملموس ؟ وأين مكانه ؟ ومن أين يبدأ وأين ينتهي ؟ البعض الآخر من العلماء يقول انه من إنتاج الدماغ, أي انه يمثل عمل الدماغ. وفئة أخرى لا تعترف بهذا التعريف , بل تجد أن هناك فرقآ كبير بين الدماغ والعقل , فالدماغ شيئا ملموس بينما العقل لاتدركة الحواس البشرية .أما التقنية فهي كل مايدعو إلى الإبداع والتغيير والابتكار والسيطرة وهي مختزلة بكلمة ” العلم ” . وهي – كما يراها هيدغر – لغز ماتزال تغلفه الأسرار .
إذن يولد الإنسان أحيانا من نطفة تمتلك جينية العقل – التقني فيكون لصاحب هذا الأمر شأنا في الإصلاح ومحاربة الفساد فيتحقق النصر من بين يديه , وفي أحيان أخر يولد من نطفة لاتمتلك هذه الجينية فيصبح من دون ضمانة في جهوده لتحقيق ماذكرناه , إذ لا يستطيع قراءة ماتوفره البيئة (= الوطن ) من حوله من اجل اكتساب الخبرة ليكون مؤهلا لقيادة الدولة وإدارتها . وبالنتيجة فإن صاحب العقل الأول يكون أكثر أهلية في الرؤية لما يجري من حوله ويكون ضمانا لتحقيق العدل بالإمكانيات المتوفرة بحيث يصبح بمقدوره توظيفها في إي وقت وإلا مالذي يجعل القيادة لتكون معمقة وذات قدرة على تحقيق العدالة غير القدرة على استيعاب الوقائع بصفاء عقل ناجز في العلم والعمل ؟!
أما مانجده هذه الأيام في خضم المظاهرات المطالبة بالإصلاح أنها تخاطب هذه الصفة من العقول ذات الإمكانيات المحدودة الضعيفة التي أثبتتها الممارسة الفعلية للسلطة وثبت فشلها في كافة الميادين , رغم أن المتظاهرين انفسهم لم يقولوا عن الجميع إنهم ضعفاء أو فاشلين , إذ أن دقة العلم المقترنة بالإخلاص لدى البعض هي التي نأت بالبلاد عن الانحطاط والانحراف على الرغم من عمق الفساد وانتشاره بل والتحالف معه وذلك في تطبيق فقه الشريعة الإسلامية وقواعد السلوك العامة .
وهكذا تبرهن جينية العقل اللاتقني من أن المستوى الفكري لديها يبقى عاجزا حتى في اشد أيام المطالبة بتعقّب الفاسدين وكشفهم من دون اتخاذ الخطوات القانونية الصحيحة تمهيدا لبسط سلطة القضاء لترسيخ الأسلوب العام في التربية الوطنية , إذ من أعمال سلطة الدولة هو الشدة في تطبيق العدالة الكاملة كنهج في ظروف الظلم والفساد والرحمة بالعباد.