كنت لربّما أوّل من تناول “الحجّ” كممارسة تتعرّض للمسائلة القانونيّة وفق مفاهيم عصرنا الأخلاقيّة ,وذلك بمقال نشرته بموقع “كتابات” الميمون عنونته ب: “الحجيج متّهمون وإن حجّوا..الخ” .. نستطيع هنا أن نفهم من قصد الحاج الى “بيت الله” لا للاعتراف أمام محكمة بلده, بل “ليطهّر” نفسه بالبوح هناك بذنوب أخفاها بحقّ المجتمع أو الدولة منذ بلوغه سنّ الرشد كالسرقات وإهدار المال العام مثلًا.. هنا بحث مختصر يدور عن ال”فكر” الّذي كان يحمله مصمّم مئذنة سامرّاء “الملويّة” وعلاقة هذا التصميم, من وجهة نظري بالطبع, بالطواف حول الكعبة ..فالّذي نطرحه هنا لا بدّ وجزء منه ساور تفكير مصمّم “الملويّة” المهندس العراقي “أحمد بن ملجم” رحمه الله قبل ألف ونيف من السنين عندما كان يهمّ بتصميم هذا الصرح “الإيحائي” الأخّاذ والمستمدّ من مرويّات “برج بابل” المزعوم خاصّة وطبقة المثقّفين العراقيّين في ذلك الزمن اتّسعت كثيراً بفضل التقدّم الكبير في الترجمة عن اليونانيّة للفلسفة والعلوم وغيرهما علاوةً على بعض لقى أثريّة اكتشفت زمن اعصر العبّاسي منها “حلّ رموز الكتابة الهيروغليفيّة بمصر” على يد “ابن وحشي النبطي أبو بكر بن علي بن وحشيّة” رحمه الله وذلك ربّما لا يعلمه الكثير ظنًّا منهم من فكّها “شامبليون”.. ما علينا هنا سوى الربط ما بين: عمليّة الطواف في الحجّ وبين شكل “الدائرة” الهندسي وأصلها في الفكر البشري كأوّل رمز من رموز العبادة “الطقوس” باعتقادي.. { فالدائرة لربّما هي أيضاً مؤثّر بشري طبيعي له علاقة بعمليّات الانفجار الكوني المزعوم وبعمليّة التخلّق على الأرض مثلًا مشابهة لأشكال الدوائر الناتجة من لقاء حجر وسط بركة} لأنّها اكتسبت طبيعتها من دوران عناصر الكون بعد الانفجار حول بعضها البعض كحالة ممتدّة عن الدوران ولا زالت تدور ويدور معها كلّ شيء ومن الدوران نتجت “الجاذبيّة” كما توصّل لذلك العلم, فتخلّقنا نحن بطبيعة تتجانس وطبيعة الدوران {وكأنّنا كنّا “ماهيّات” تدور فبردت واستقرّت تحرّرت منها ما عُرفت “بالأنفس” بما فيها الغرائز} ,وأوّل مؤشّر “فكري” للحثّ الدائري هي فكرة “الآلهة” المركز, فكان على أرض الرافدين {أن أنعكس على المعمار فأصبحت الدائرة أسّ الرمزيّة الدينيّة المعماريّة في جميع العبادات الّتي ظهرت أو الّتي تطوّرت فيما بعد ثمّ إلى ما عرفت بالأديان} وهنا قد نتوصّل إلى أنّ: {العبادة قد تكون غريزة؛ الحركة الدائريّة انطلاقها الأوّل} لذا فالدائرة أولى إرهاصات العبادة, وهي الّتي نبعت طبيعتها من أرض الرافدين ومنها انتشر “فكرها” الّذي هو أساس ثقافات العالم ولا زال فعّالًا ولغاية اليوم بما عُرفت بالأديان, وجميع المكتشفات الاركيولجيّة بشقّيها الاثنولوجيا والاثنوغرافيا والدراسات السيوسولوجيّة الخ, تساندها المرويّات والأساطير تفصح عن ذلك.. تميّز “العبادة الدائريّة” إن صحّ التعبير أو “الاصطلاح”, في العراق وحده , بما يحتويه من طابع معماري ديني يترجم ذلك, “حُسّنت” بعد تطوّر مراحل الفكر الديني الأوّل انتقلت فيما بعد بمربّع ؛ “لكن لا زال ضلع الدائرة يمسّ أركان أضلاعه الأربع, واستعاض المربّع عن وجود ضلع الدائرة بالحركة البصريّة “لاستشعار” بحركة الدوران “الطواف” حول الكعبة ..أي حافظ المربّع على شكله الدائري سواء ب “الحوليّة” الأوسع أم بالمحوريّة بالاستعاضة طالما يحدّد جهات العبادة بهذا الطابع, فلا أضلاع لمعمار ,وإن تعدّدت بين مثلّث أو معين أو مخمّس إلاّ بتماس رؤوس زوايا أضلاعها بضلع الدائرة “البصري” فلا قبلة ثابتة في فكر “ميزوبوتيميا” بل كلّ الجهات قبلة ( أينما تولّوا فثمّة وجه الله ) تجرّدت فيما بعد لتستقرّ “القبلة الدائريّة” باتّجاهات أربع “يدور” من حوله الكون ترجمها “التسبيح” .. فالشاهد الأوّل على “التمازج” في العبادة بين المربّع وبين الدائرة هو “برج بابل” بحسب إحدى أهمّ الصور اقترابًا من الشكل الحقيقي للبرج من بين الصور المتخيّلة عنه ,وبعدما قفز “التسبيح بحركته الدائريّة” داخل المربّع! فانتقل على إثرها المعمار العراقي تتعدّد خياراته بين مربّع وبين دائري من أشكال نلحظ ذلك من تتبّعنا لآثار المعمار ,إذ باتت حتّى القوائم العموديّة في المعمار اعتمدت صلابتها وقوّة تحمّلها على الشكل الدائري بنصفه أو بربعه..
منذ القدم انتشر “فكر الحركة العباديّة لبلاد ما بين النهرين” إلى أرجاء المعمورة أوّلاً فبرز بأبهى صوره تأثيرًا على الفكر اليوناني “بملاعبه” الدائريّة الشكل فلا ارتقاء لضمير “روحي” إلاّ بالدوران , والدائرة سلّم المتصوّفة “للعبور” وبدونه مادّي “لا معنى له” ,و ( الملويّة ) قاعدة مربّعة {ترتفع فوقها عمليّة تسبيح دائريّة من سبع مرّات “طلباً للتوبة” أو طريقاً للعبور}؛ فكر عراقي عميق يعلو بحجيجه لبيت الإله بالدوران “الفعلي” من سبع مرّات يقصدونه “لقبول التوبة” يدرك ذلك جيّداً “مؤذّن الملويّة” كان يؤدّي فريضة الحجّ خمس مرّات في اليوم الواحد بعدد مواعيد صلوات الفرض! فسُجّل له كأكثر الحجيج حجّاً ,وهي عمليّة توازي الارتفاع الشاهق للمئذنة الملويّة أو برج بابل “الملوي” ..لذا فبإمكاننا القول الطواف حول الكعبة فكر رافديني طوّر عن فكر الدوران الأوّل هدفه أصبح الوصول إلى قبول الخالق التوبة من العبد, صعوداً متسامي من سبع مرّات اختزالاً عن الارتقاء المباشر القديم .. ولا يخلوا ذلك من فكر سياسي هدفه حشد الرعيّة من كلّ حدب وصوب كلّ عام “لشكر الإله على نعمه والتوبة إليه” من فعل الفواحش “المخالفة لقوانين الإله” والمسجّلة على شكل مسلّات منتصبة ما يعني أنّ العراقي أوّل من “مدّن” الحج وجعله مفهوماً {قبل أن يُبهمْ}! .. السؤال هنا هو: هل سبب تراجع البلد فكريًّا تعرّض موجة محوريّته السكّانيّة المنتجة لديناميّة العراق الفكريّة موجات منتجة لأفكار أخرى خارجيّة تداخلت عبر عدّة قرون, أربكت محوريّة البلد سبّب تراجعه على كافّة الصعد؟.. كلّما سقط نظرنا على هذا الكائن العجيب ( الملويّة ) علينا تذكّر أجدادها الأوائل؛ الزقّورة وبرج بابل وأولادهما البعيدون “كعبات الجزيرة العربيّة” وبرج بيزا وأهرامات مصر وأهرامات المكسيك”..