بالرغم من قصر عمرها فلقد حققت المظاهرات العراقية إنجازات علينا أن ننحني إزاءها بإجلال. وأحاول في مقالتي هذه أن أعدد بعض هذه الإنجازات على سبيل المثال فقط لا الحصر:
1- حققت المظاهرات في الجمعتين الأولى والثانية وما بينهما من مدة قصيرة إنجازا قياسيا لم يتمكن دعاة الحكم الإسلامي والمتشبثين بأستار الدين من تحقيقه خلال 13 سنة من حكمهم العراق. وأقصد هنا حلم العراقيين الأشراف المتمثل في الوحدة الوطنية والتي يتعمد المتأسلمون في تسميتها ” بالمصالحة الوطنية” تعزيزا لنظرية بريمر القاضية بتقسيم عرب العراق تحديدا إلى “عرب سنة” و ” عرب شيعة “. لم يتمكن النظام حتى من الإقتراب من ظلال هذا الهدف الوطني الكبير لأنه إما لم يكن جادا في تحقيقه أو كان متخلفا سياسيا وأصغر من أن يتصدى لتحقيق حلم وطني كبير كحلم الوحدة الوطنية. في حين حققته الجماهير لأنها المتضرر الأكبر في هذا التقسيم وهذه الفرقة ولأنها جادة فعلا في تحقيق الوحدة الوطنية ولأنها تمتلك الشجاعة والجبروت للتصدي لمهمة تحقيق هذا الهدف المقدس. الملايين من العراقيين في كل البلاد صرخت بأن الجميع متساوون في ظلم تمارسه أقلية من سراق المال العام والفاشلين في إدارة شؤون البلاد. لم تعد للطائفية أمكنة في الشارع العراقي .. لقد سحقت أقدام المتظاهرين الطائفية ورموزها من كل الأطراف..
2- هزت المظاهرات عروشا كانت تعتبر نفسها مقدسة وأحاطت نفسها بهالات وبراقع فعمقت يوما بعد يوم الهوة بينها وبين المواطنين. في مظاهرات خرجت الجماهير عن بكرة أبيها لتؤكد حقيقة معاكسة تماما عما يجري في أذهان الظلاميين والمتخلفين وسراق المال العام والفاشلين. صرخت أن المقدس هو الشعب لا السلطة. أن المقدس هو المواطن لا الحاكم. وأن المقدس هو الوطن. لا هؤلاء السراق واللصوص.
3- وضعت المظاهرات تعريفها الحقيقي الميداني لمفهوم السياسة الذي لطم عرض الحائط النموذج السلطوي والإنتهازي والنفعي والمتخاذل للـ ” السياسي ” القابع وراء الحواجز الكونكريتية ووراء الزجاج المظلل والأرتال المجنزرة. إن السياسي هو من يعمل في الشارع وفي الميدان من أجل بناء الدولة وتحقيق أماني المجتمع. لا هذا الذي يكون جلَّ همه إبرام العقود وتوقيع المقاولات وتحويل الدينار إلى دولار.
4- إستطاعت المظاهرات أن تعيد قوى اليسار الوطني والديمقراطي إلى ريعان شبابه حين كانت السماء تكتظ بأصوات حناجر جماهيره مطالبة بالعدالة الإجتماعية وبالمساواة بين المواطنين وبناء دولة قوية عادلة. واليوم عادت الرايات العمالية وبريق عيون الكادحين بعد أن عمدت قوى اليمين المدعية بالدين إلى محاصرته وراحت حتى تحسب عليه أنفاسه كما كانت تفعل معه الأنظمة الدكتاتورية المنقرضة. لقد شاهدنا العمال والفلاحين والشباب والطلبة وكل شرائح المجتمع التي صارت ضحية ظلم النظام الفاشل والمتخلف تتحد وتهتف وراء رموزها من ديمقراطيين ووطنيين وشيوعيين ومدنيين. واستجعت قوى اليسار العراقي
الديمقراطي بشتى مشاربها المبادرة لتكون في الميدان ليست فقط فاعلة ومؤثرة بل حددت ببسالة أهدافا إجتماعية ما كان قبيل المظاهرات للكثير من أن يتجرأ بالبوح بها كي لا يتهم بالزندقة أو المروق. وفي هذا الصدد يجب أن نذكر أن بفضل التظاهرات استطاعت القوى المهنية والنقابية العمالية ان تأخذ دورها الميداني الفاعل وتطرح علنا اهداف الطبقة العمالية التي مزقتها سياسات الإلغاء لكل ما هو صناعي وطني وزراعي. بل راحت القوى العمالية تنسق جهودها وصولاً إلى توحيدها في كيانات اتحادية ونقابية واحدة.
5- لأول مرة منذ عام 2003 تأخذ المرأة العراقية دورها الرائد في النشاط السياسي والميداني منه تحديدا بعد أن كانت ” ضحية الإرهاب ” و ” ضحية العنف الأسري” و ” ضحية التحرش الجنسي ” وفي أحسن حالاتها كانت تدير منظمات مدنية أسيء لها من قبل الكثير الكثير من ذوي النفوس الضعيفة من أصحاب القرار. في المظاهرات المرأة العراقية قائدة , فاعلة , شجاعة لا تختفي وراء الرجل بل كتفا بكتف تتدافع عند أبواب الجنة وساحات التحرير في كل العراق. طوبى لكنَّ يا نساء العراق..طوبى..
6- لقد كان الفاعل الأكبر في سوح التظاهرات والشوارع والطرق المؤدية لها هم الشباب. وإذا كان هذا هو ديدن الشباب العراقي دائما فإنهم كشفوا اليوم عن طاقات وقدرات لم تكن مرئية لنا نحن السياسيين وبكل صراحة ووضوح كما هي اليوم تحت أنوار التظاهرات. لقد كشفوا عن وعي سياسي كبير وعميق بكل واقع المجتمع والبلاد. وكشفوا عن رؤيا سليمة وصحيحة في تحديد مواجع الخطأ والخطيئة. وألأكرم من هذا كله قدموا البدائل.. مرحى بإجلال لكم يا شباب العراق..
7- إستعادت لنا المظاهرات وطنيتنا وانتماءنا للوطن بعد أن سلبهما منا الطائفيون والمرتبطون بالأجنبي. فالشعارات السائدة وطنية لا طائفية .. والهتافات بإسم العراق لا بإسم أية دولة.. وحتى مع اشتداد أزمة الهجرة من الوطن فإن الكثير من الرايات كانت تنادي: لن أغادر بلادي.. وحتى المهاجرون بدأ البعض منهم والبعض ممن كان ينوي الرحيل ألغى الرحيل وبقي متشبثا بالأرض وبالوطن. وسيبقى العراق لنا ونحن له..
8- استطاعت المظاهرات أن تشق صف النظام وتتسبب في فرز وطني داخله.. فمنهم من يتفهم أهداف الشعب في مظاهراته ويتعاطف معها ومنهم من تأخذه العزة بالإثم فيبقى راكبا رأسه حتى لحظة أن يطاح به. إن من منطق التاريخ ومن تاريخ كل الشعوب أن مع كل حدث كبير تطرأ إصطفافات سياسية واجتماعية تناسبه بالقوة والتصميم. والقوى الفاعلة اليوم في المجتمع العراقي تعيد اصطفافاتها ليس فقط على صعيد السلطة بل وحتى في اعماق المجتمع الذي مزقته الحروب والطائفية والطبالة ليضع رؤيا جديدة تتسق مع طموحاته وحاجاته الأساسية.. لذلك على المظاهرات أن ترحب بكل منشق على السلطة وأحزابها ليلتحق بصفوفها.
9- حققت المظاهرات إنجازا فكريا وسياسيا يحتاج إلى تعميق وتأطيرات نظرية علمية وهو مفهوم المدنية. وبالرغم من أن هذا المفهوم ولد في شارع المظاهرات غير متكامل بسبب محاولة البعض وضعه في مقابل مفهوم السياسة إلا أنه فسح المجال لنشوء تيار
سياسي يحمل إسم المدني في تصور قد يكون خاطئا. أن أي نضال منظم موجه نحو السلطة ينطوي على مطالب تتعلق بتركيبة السلطة وبتوجهاتتها السياسية هو سياسة مهما كانت الأسماء والألقاب التي يحملها. إلا مفهوم المدنية الذي طرحته المظاهرات قد يكون شيئا أكبر مما نتصوره في يومنا هذا الأمر الذي يجعل الباب مفتوحا لمستقبل قريب قد يحسمه.
المجد للعراق القادم من رحم المظاهرات.