إطلالة جديدة أخرى ولكن من بيروت هذه المرة عن إحدى الصفحات المهمة من تاريخ بغداد المليء بالإثارة والتشويق أطل بها الاستاذ سعد محسن خليل أمين سر نقابة الصحفيين العراقيين من خلال مطبوعه الشيق وغلافه الطباعي الجميل الموسوم / شقاوات الزمن الماضي / ، والذي يعد فعلا إضافة نوعية الى المكتبة العراقية عن مرحلة مهمة من مراحل / الشقاوات / التي انتشرت ظاهرتها في بغداد وفي بعض مدن العراق ، قبل أكثر من مائة عام، واستمرت لعقود ، مايعد إسهامة في اطلاع ملايين العراقيين على أشياء غامضة ومخفية من تاريخهم المعاصر.
وإحدى فضائل هذا المطبوع الذي صدر مؤخرا في بيروت بطبعة انيقة انه حين يستعرض تاريخ الكثير من الشقاوات وطبيعة مهامهم في المحلات الشعبية، حين ظهروا بأنهم المدافعون عن محلاتهم بوجه الأشقياء الاخرين من محلات أخرى، واستخدامهم من قبل الانظمة السابقة في عمليات التصفيات السياسية ، فانه يعود ليشير الى صفات ايجابية كانت احدى سمات هؤلاء الأشقياء وهم انهم كانوا يدافعون عن المحلات الشعبية التي يتمركزون فيها ولديهم قيم أخلاقية بنصرة من يتعرض للاعتداء وهم لايقومون بأعمال سرقة او اعتداء على ساكني محلاتهم ، بل يظهرون امامهم على انها ابطالها ومن يذودون عنها في الشدائد والملمات في حال تعرضت لاعتداءات من شقاوات من محلات أخرى، وكان الصراع على أشده بين اؤلئك الشقاوات الذين زخرت بهم بعض احياء بغداد في الزمن الماضي مثل مناطق الفضل والاعظمية والجعيفر والصدرية وباب المعظم ومن بعدها في الباب الشرقي والسعدون.
كما يستعرض المؤلف علاقات كبار السياسيين سواء في العهدين المالكي أو الجمهوري، مع شقاوات استخدموا لاغراض خدمة هؤلاء في صراعاتهم مع المنافسين، وكان رئيس وزراء العراق الاسبق نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وممن جاءوا من بعده قد تم إستخدامهم في الصراع بين الشيوعيين والبعثيين، ودارات صراعات بينهم كان ابطالها بعض من هؤلاء الشقاوات، وكانت مرحلة عصيبة من مراحل العراق في العصر الحديث، استخدمتهم أجهزة الامن لاغراض التصفيات او في ملاحقة الخصوم، أو للتباري في الساحات السياسيين لمن يجدون فيهم من يحق لهم أغراضهم في فرض سلطة الرعب والخوف من بطش السلطة والخارجين عن القانون، ممن تدعمهم الحكومات العراقية المتعاقبة لخدمة اهدافها.
وقد اعتاد البغداديون على سماع قصص شقاواتهم التي ذاع صيتها قبل قرن من الزمان، وحفلت مناطق معينة من بغداد بأسماء لامعة من هؤلاء الاشقياء الذين يزخر بهم تاريخ بغداد والكثير عن محلاتها والاسماء التي برزت في تاريخها عبر عقود من الزمان كان لها حضور في الشارع البغدادي، وكانت تتحكم بمقدرات مناطقها ويهابها السياسيون وربما تسبب الخوف والهلع لدى سكان محلاتها ، على الرغم من ان طابع هذه الشقاوات لايحمل الضغينة لأهل المحلات التي يأوون اليها ، بل كثيرا ما يكونوا مدافعين عن اهالي تلك المحلات من ان يطالها تهديد جماعات اخرى من الشقاوات من غير محلاتهم ، كما ان لديهم صفات محببة احيانا فهم وجه المحلة وبطلها الذي تتفاخر به بين المحلات الاخرى بوجه من يحاول التربص بها.
وزميلنا الاستاذ سعد محسن وضع بين ايدينا تلك الصورة التي من خلالها نرى اسباب ظهور الشقاوات في بغداد ، وبخاصة في الفترة المتأخرة من الدولة العثمانية ، رغم انه سار بنا بعيدا في اصل ظهور اؤلئك الشقاوات الى عصور موغبة في القدم في تاريخ العراق ، الا ان التركيز جرى على حقبة العشرينات والثلاثينات والاربعينات وربما الخمسينات من القرن الماضي، اذ يتذكر البغداديون تلك المرحلة التي عزاها المؤلف الى ضعف الدولة العراقية ابان السيطرة العثمانية ، اي ان الشقاوات يظهرون في الغالب يوم تكون الدولة العراقية في احط عهود تدهورها وانحلالها وغياب دولة القانون ، وكان حتى حكام العراق يخشون من بطش هؤلاء الشقاوات ويضعون لهم اعتبارا عند التعامل معهم، بل ان قوى سياسية عراقية في مرحلة الاربعينات والخمسينات كانت تعتمد على الشقاوات في المواجهة مع القوى الاخرى التي تتصارع معها على الساحة السياسية العراقية ، وكثيرة هي القصص التي تتحدث عن شقاوات استعان بهم رجال سياسة في فرض ولاءات لتنظيمهم او الوقوف بوجه تنظيمات اخرى او كيانات اخرى ضمن مناطقهم في بغداد ومناطق أخرى، وبقيت حركات سياسية تعتمد في قوتها على قدرة ما تستطيع ان تكسب من هؤلاء ضمن محلاتهم التي يفرضون ارادتهم عليها وربما تضفي طابعا سياسيا على تلك المحلة لحساب جهة سياسية لها الغلبة وفرض ارادتها في الساحة السياسية ، وهناك تاريخ طويل عن شقاوات بغداد سردها لنا الزميل والصحفي القدير سعد محسن في كتابه الجديد في طبعته الثانية والذي يعد فعلا اضافة لايستهان بها الى المكتبة العراقية وتشكل دافعا لاخرين للبحث بين ثنايا هذا التاريخ وتلك الحقبة المهمة من تاريخ العراق المعاصر.
والمطبوع يستعرض من بين تلك الاسماء خليل ابو الهوب واحمد قرداش وحامد البغدادي وكامل شبيب وحسن كبريت وابن عبدكه وجبار ابن بهية السودة وموسى ابة طبرة وعبد الامير العجمي وعبد المجيد كنه واخوه خليل كنه وعباس الديج وطه ابن الخبازة وغيرهم كثير لايتسع المقال لتناول سيرتهم واسمائهم.
كما يستعرض الزميل القدير سعد محسن في مطبوعه الشيق هذا شقاوات الحلة والنجف والبصرة ويلقي ضوءا على حالة مبسطة من تاريخهم ونشاطهم ضمن مناطقهم.. كما استعرض مسيرة شخصيات عرفها تاريخ بغداد مثل ابراهيم عرب وابن بنية وتوفيق اجنص وجاسم ابو الهبزي.
وقد وضع الزميل سعد محسن مقدمة وعرضا تاريخيا لتسلسل احداث هؤلاء الشقاوات وظهورهم في حقب مختلفة من التاريخ العراقي لكننا نجهل الكثير عن تاريخ هؤلاء رغم اشارة الكثير من المؤرخين العراقيين الذين استعرضوا لنا تاريخ تلك الحقبة واسمائها اللامعة معتمدين على مصادر تاريخية وضعت الاساس لهذا النوع من البشر الذين كانت لهم مواقف بطولية ضمن مناطقهم في ذلك الزمن ولم يستغلوا الوضع لتكريس انحلال الامن كما يجري الان من بعض شقاوات بغداد الذين ازداودا هذه الايام بفعل غياب الامن ودولة القانون ، اذ ان شيوع تلك الظاهرة لايدل ان هناك نواة لدولة تحفظ حياة شعبها وسيادة الجماعات المسلحة هو نوع من انواع تلك الشقاوات ، ولكن بإسلوب آخر ، فهؤلاء ليسوا ابطالا بل صعاليك يذيقون شعبهم سوء العذاب ويزرعون الرعب والفوضى وهم من تستنجد بهم بعض القوى السياسية لفرض هيمنتها على بعض مناطق بغداد ومحافظات اخرى..وامل العراقيين ان تنتهي تلك الحقب المظلمة من تاريخ العراق لصالح توفير الامن والامان والسلام والاستقرار في كل ربوع العراق وعودة الدولة المدنية ودولة القانون ، بدل هذه الفوضى والاضطراب وسيادة الميليشيات والجماعات المسلحة التي هي نوع آخر من الشقاوات يجب الوقوف بوجهها لكي لاتروع مواطنينا وتغرس الرعب والارهاب بين جنباتهم.