لأن غوغول لا يمتلك بيتا ولا عائلة في روسيا (رغم انها جارت عليه فهي عزيزة طبعا !), كان الاصدقاء يفتحون له أبواب بيوتهم ويستضيفونه فيها بكل رحابة صدر وحب ولأي فترة يشاء, وهكذا استقر غوغول في الثلاث سنوات الاخيرة من حياته في هذا البيت , الذي تحول الان الى متحف في غاية الروعة و الجمال والرشاقة والروح الابتكارية الابداعية , ( المتحف الذي يساعد الناس على فهم غوغول بشكل أعمق ) كما قال عنه أحد النقاد .
عندما اقتربت من سياج ذلك البيت, هذا السياج الذي رأيته عشرات السنوات وعشرات المرات في الصور الموجودة في الكتب والمصادر الروسية العديدة حول غوغول ,( والذي كنت أحلم ان ازوره يوما كي أشاهد تلك الجدران التي احتضنت غوغول أواخر ايام حياته ), أقول , عندما اقتربت من ذلك السياج بدأ القلب ينبض بشكل غير اعتيادي , و تذكرٌت شاعرنا العربي العاشق, الذي كان ( يقٌبل ذا الجدار وذا الجدارا)…, و لاح تمثال غوغول في الفناء أمام ذلك البيت , هذا التمثال الذي افتتحوه في موسكو عام 1909 لمناسبة الذكرى المئوية الاولى لميلاده , والذي لم يكن يحبه ستالين عندما كان يمر يوميا جنبه عندما كان يذهب للعمل في الكرملين , والذي – بسبب هذا اللاحب – رفعوه و وضعوا بدلا عنه تمثالا آخر لغوغول يتناغم مع مفاهيم ستالين وافكاره , ( انظر مقالتينا بعنوان قصة تمثال غوغول في موسكو / و/ عود على قصة تمثال غوغول في موسكو ) . وقفت عند هذا التمثال الخالد للنحات الروسي أندرييف , الذي صبٌ فيه كل أفكار غوغول وابعادها المضحكة والمبكية و الحزينة والغرائبية والعميقة والمتنوعة والواقعية والخيالية ….الخ.. وتأملته بامعان وهو جالس و يرتدي (معطفه ) العتيد ملتفتا قليلا الى اليسار ويحدٌق فيما يجري حوله بحزن شديد (و كدت أقول برعب هائل ), وفي اسفل قاعدة هذا التمثال وجدت كل أبطال غوغول يحيطون به من كل الجوانب ,
وتأملتهم بدقة وتحدثت اليهم ( وعنهم ) مبتسما, اذ انهم اصدقائي . ها هو ذا خليستيكوف – المفتش المزيٌف متحدٌثا مع بوبتشينسكي ودوبيشينسكي المرعوبين منه , وها هو تشيتشيكوف يشتري ألارواح الميٌتة للفلاحين الاقنان من الاقطاعيين هنا وهناك وملامح الخداع والحيلة واضحة في عينيه , وها هو تاراس بولبا بخصلة شعره الغريبة شاهرا سيفه العتيد في تلك المعارك الرهيبة, وها هو الموظف المسكين اكاكي اكاكيفتش مرتديا معطفه الذي طاف به بلدان العالم ولا يزال , وها هو بطل قصة الانف يركض مندهشا وراء الانف في شوارع بطرسبورغ , وها هو ذاك الذي يحمل اطار لوحته التي سيخرج منها البطل حيا , وها هوذاك وها هوهذا وها هو …آه ما أكثرهؤلاء الابطال الغرباء الاطوار والمجانين و لكنهم – مع ذلك – يحيطوننا في كل مكان وزمان ويعيشون معنا لحد الان ويشاركوننا – شئنا أم أبينا – كل الهموم والمعاناة والمصائب في حياتنا اليومية الكئيبة والمعقدة والصعبة…
أترك التمثال وتلك ألاجواء المحيطة به وأفتح باب البيت – المتحف وأدخل. أدفع ثمن البطاقة . في الغرفة الاولى أرى معطفا معلقا عند المدخل . انه طبعا نفس ذاك المعطف الغوغولي الشهير. أنظر اليه بامعان وتأمٌل وابتسم . امام المعطف يوجد صندوق حديدي يحتوي على تلك الحاجيات البسيطة للموظف (العالمي!!!) المسكين . انتقل الى الغرفة الاخرى , واسمها غرفة المفتش . هناك نفس تلك المنضدة التي جلس خلفها غوغول وهو يقرأ نص مسرحيته الشهيرة . نجلس على مصطبة امام تلك المنضدة وفوقنا صورة القيصر الروسي الذي حضر العرض الاول لتلك المسرحية عام 1836 , ونستمع الى جملة غوغول في بداية تلك المسرحية الخالدة عن دعوته لاعلامهم بالنبأ الاكثر ازعاجا وهو الخبرعن امكانية وصول المفتش الى بلدتهم … ثم ننتقل الى الغرفة الاخرى حيث سرير غوغول والمنضدة التي كان يكتب عليها واقفا . كم هي متواضعة تلك الغرفة , والتي كان يستقبل فيها اقرب الاصدقاء .جنبها كانت الغرفة الرهيبة , والتي تحتوي على موقد التدفئة , وامامها الكرسي الذي جلس عليه غوغول امام ذلك الموقد وأخذ
يحرق الجزء الثاني من روايته العظيمة – ( الارواح الميتة ) وبقية أوراقه الاخرى وهو يحدٌق فيها بحزن . واجتمعنا هناك , وأغلقوا الستائر , وأشعلوا المدفأة كهربائيا , وبدت الاوراق تحترق امامنا . آه يا له من منظر مؤلم ورهيب وحزين . ثم ننتقل الى الغرفة المرعبة , والتي توفي فيها غوغول. يجلسوننا على مصطبة وامامنا مرآة قديمة على واجهة دولاب قديم , وخلفنا القناع الذي عمله نحات لوجه غوغول عندما توفي . يوجهون حزمة ضوء ( بروجكتور ) على القناع بعد ان يسدلوا الستائر وتصبح الغرفة معتمة , ووراء القناع تلك الاريكة التي توفي عليها غوغول , ونرى في المرآة وكأنه راقد هناك وقناع وجهه وكأنه يضطجع على الوسادة وقد فارق الحياة , ويصدح مع هذا المنظر الرهيب غناء كنسي حزين يصاحب عادة تلك الاحداث . يستمر هذا العرض عدة دقائق ويتحسس المشاهد كل تلك الاجواء الرهيبة والحزينة عندما رحل غوغول عن الحياة , وبعد ان ينتهي العرض نرى تمثالا من البرونز عنوانه – غوغول الذي يموت , يجسٌد الكاتب وهو شبه جالس على كرسي والالم ينعكس على وجهه بشكل واضح وعنيف . ننتقل بعدئذ الى الغرفة الاخيرة , حيث يعرض هذا المتحف لوحات مجسٌمة لنتاجات غوغول مع موسيقى تتناسب وتلك النتاجات , وهناك شاهدنا لوحات مجسمة و مدهشة جدا لتلك الاعمال الابداعية له . لقد وقفت طويلا عند لوحة مجسمة لقصة شارع نيفسكي وقد صورها الفنان رأسا على عقب , لدرجة ان احد المشاهدين لم يستوعب الفكرة وسأل – ( لماذا الشارع بالمقلوب ؟ ) فضحكت المشرفة على تلك الغرفة وقالت له – ( اسأل غوغول ) ,أما اللوحة التي تجسٌد قصة يوميات مجنون فقد كانت تصوٌره وهو يبحلق في الفراغ ويعلق قلما في منتصف جبينه شامخا أعلى من رأسه رمزا للتاج , اذ ان المجنون يعلن في نهاية القصة انه ملك اسبانيا , لكن الجميع لا يعترفون به , وكانت اللوحات الاخرى لا تقل روعة وجمالا ,وخصوصا تاراس بولبا والمفتش والارواح الميتة …الخ تلك النتاجات الابداعية الخالدة لغوغول .لقد وقفت طويلا وأنا اتامل هذه الاعمال الفنية لدرجة ان مسؤولة المتحف انتبهت الى ذلك
وسألتني – من أي بلد انت ؟ ولما قلت لها انني عراقي اندهشت بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى وقالت لي انني أول عراقي تراه يزور متحف غوغول ويتأمل المعروضات بهذا الشكل ويهتم بكل تفاصيلها ويتفحصها بدقة , وطلبت منٌي أن أكتب في دفتر الزيارات شيئا – ما عن انطباعاتي , فكتبت بالعربية جملة حول هذا المتحف واهميته بالنسبة للكاتب العظيم والذي يعرفه القارئ العراقي والعربي عموما , والذي نقرأ نتاجاته الخالدة بلغتنا العربية منذ سنين طويلة ونتفهمها بعمق .
ان هذا المتحف الفريد بكل معنى الكلمة من نوعه فعلا يستحق ان يكون رمزا ونموذجا لمتاحف الادباء في العالم ( وكم نحن بحاجة الى تلك المتاحف في العراق, رغم ان التمني رأس مال المفلس !!!), اذ ان هذا المتحف لا يعرض فقط ما بقي من كتب و وثائق وأثاث لغوغول , وانما يعرض تاريخ نتاجات الكاتب وتجسيدا تحليليا فنيٌا وعميقا لتلك النتاجات ,وضعتها أيادي فنانين متخصصين كبار درسوا بدقة ابداع غوغول , اضافة الى مسيرة حياته , وكل ذلك يؤدي طبعا الى التغلغل في أعماق تلك النتاجات و استيعاب قيمتها الفنية الحقيقية .