هل نجح الساسة الشيعة في أدارة عراق ما بعد سقوط الصنم ..؟.
وهل نالت الأغلبية الشيعية المضطهدة في العراق حقوقها المسلوبة منها لقرون طويلة ..؟.
للإجابة على هاذين السؤالين لابد لنا من استعراض ولو جزء يسير لتاريخ التشيع ، والأسباب الحقيقية التي كانت وراء نشوئه كحركة دينية وسياسية جعلت من الإمام علي ابن ابي طالب (ع) وأبنائه الركيزة والمصدر الأساس لحراكها العقائدي والسياسي داخل العالم الإسلامي ذي الأغلبية السنية .
ظهرت ملامح التشيع في شبهة الجزيرة العربية ، وبالتحديد في المدينة المنورة في حياة النبي (ص) ، فكان بعض الصحابة قد تأثر بشخصية الامام علي (ع) وسلوكه الإنساني .. كابي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وعبد الله ابن العباس وعبد الله بن مسعود وغيرهم الكثير .. وقد شاركوه المواقف نفسها مما حدث في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي محمد (ص) .. ومن هنا انطلق التشيع كأقرب ما يكون الى حركة يسارية داخل المجتمع الإسلامي ، وتوسعت قاعدته في خلافة علي ابن ابي طالب سنة 135هجرية ، وانتقاله إلى الكوفة لتكون عاصمة الخلافة الإسلامية الجديدة ، نتيجة للظروف السياسية التي طرأت على الساحة الإسلامية .. فانتقل التشيع إلى العراق .
وقد عرف ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هجرية .. معنى التشيع لغويا من خلال تفسيره لهذه المفردة التي وردت في القران اثنا عشر مرة في كتابه (جامع المسانيد) .. بان الشيعة تعني الفرقة أو الأهواء المختلفة أو الأهل والعشيرة أو أهل الملة .
وبعد مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ذلك الثائر العظيم ، اخذ التشيع أشكالا وصيغ عدة اعتمدت كل منها على التوجهات الفكرية والظروف السياسية والاجتماعية التي نشئ فيها أصحابه .. فمنهم من انتهج المعارضة السلمية فكرا وأسلوبا وعقيدة واكتفى بالتنظير والدعوة الى الإصلاح الاجتماعي ونشر المفاهيم الحقة للدين كمدرسة الإمام علي بن الحسين (ع) الملقب بالسجاد الإمام الرابع عند الشيعة الأمامية .. وأوكل التغيير كفعل مسلح إلى ظهور الإمام الثاني عشر الذي سيظهر في آخر الزمان الإمام محمد بن الحسن الملقب بالمهدي (ع).. وهذه المدرسة بقيت قائمة الى وقتنا الحاضر والمتمثلة بحوزة النجف الاشرف .
وأما المدرسة الثانية .. فهي مدرسة زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن ابي طالب ، الذي اتخذ من الكفاح المسلح منهجا وطريقا نحو التغيير والإصلاح بثورته على حكومة هشام بن عبد الملك ومقتله في الكوفة عام 122 هجرية .. وماتلا هذه الحركة من ثورات مسلحة كان شعارها المعلن إقامة العدالة الاجتماعية الذي هو الهدف الرئيسي لنشوء الفكر اليساري الحديث .. مثل ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى الملقب بمحمد النفس الزكية والذي ثار على ابي جعفر المنصور وقتل بالحجاز عام 145هجرية .. وغيرهم بالعشرات ممن ثاروا بهدف تحقيق العدل والمساواة ورفع الظلم عن أبناء المجتمع والذين آلت جميع ثوراتهم بالفشل السياسي والعسكري وكان اغلب قادتها من سلالات علي بن أبي طالب (ع) كما أوردهم أبي فرج الأصفهاني في كتابه (مقاتل الطالبين) .
ونتيجة لهذا الحراك السياسي والفكري للشيعة عبر الأزمنة المتلاحقة فقد أطلق عليهم خصومهم من اليمين المحافظ والمنتفعين من السلطة بالرافضة والذي عرفه ابن منضور في( لسان الميزان ).. بأنه ترك الشيء فيقول رفضني فرفضته .
فيذكر ابن تيمية في( شرح منهاج السنة).. بان بعض الشيعة لقبوا الرافضة لرفضهم بيعة زيد بن علي بن الحسين كونه قدم الخلفاء الراشدين الثلاثة على علي بن أبي طالب .. وهذا رأي غير ناهض وقاصر كون هذا المصطلح كان يستخدم في أزمان سبقت زيد بن علي كما جاء في (تاريخ الأمم والملوك) للطبري من مراسلة معاوية بن ابي سفيان لعمرو بن العاص ووصفه شيعة عثمان بالرافضة لرفضهم بيعة علي بن ابي طالب وهم أهل البصرة .. فكتب يقول.. (فان مما كان من امر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك وقد نزل الينا مروان ابن الحكم في رافضة اهل البصرة) .. ويعلل ابن رستم الطبري وهو محمد بن جرير الطبري الملقب بالشيعي والذي عاصر محمد بن جرير الطبري اي في سنة 460هجرية ..أنهم إنما قيل لهم رافضة لأنهم رفضوا الظلم والباطل وتمسكوا بالحق.
عانى شيعة العراق من الظلم والتهميش لقرون طويلة على ايدي الحكام الجائرين ، منذ عصر الخلافة الأموية إلى سقوط الصنم عام 2003 ميلادي ، حيث كانوا يقتلون على الظنة ولا تقبل لهم شهادة ، فقد ذكر العلامة المجلسي في كتابه ( بحاره الانوار ) .. ان عامر الدهني قد شهد شهادة عند ابي ليلى القاضي فردها وقال له ياعمار فقد عرفناك لا تقبل لك شهادة لأنك رافضي .. وعمار الدهني يصفه الذهبي في( سير أعلام النبلاء) .. هو الإمام المحدث عمار بن معاوية بن اسلم البجلي المتوفى سنة هجرية وهو من ثقات الإمام احمد بن حنبل في مسنده.
في زمن الدولة العثمانية اخذ الإقصاء والتهميش بحق الأغلبية الشيعية في العراق أشكالا أكثر تنظيما وبصورة منهجية ، اتبعت طرقا أكثر حداثة وذات أبعاد سيتراتيجية في تعاملها معهم ، حتى منعتهم من دخول اي وظيفة حكومية او مدرسة حربية كما يذكر كامل الجادرجي في كتابه (من أوراق كامل الجادرجي) ..(ان الطائفة الشيعية تعد في زمن الدولة العثمانية اقلية ينظر اليها بعين العداء فلم تكن يقبل لهم تلميذ في مدارسها الحربية ولا اي وظيفة حكومية وحتى المدارس الاعدادية كانت يمنع ابناء هذه الطائفة من دخولها).
بعد قيام ثورة العشرين التي انتفض فيها شيعة العراق في الوسط والجنوب على الاحتلال البريطاني ، تشكلت أول حكومة وطنية في العراق عام 1921 والتي ارتـأى الانكليز إبعاد الأغلبية الشيعية عنها كنوع من العقوبة لهم ، ومنها تأسس النظام السياسي الحديث في العراق وفق معادلة شاذة جرت على العراق ويلات الانقلابات والحروب والمقابر الجماعية .. الى ان حدث الانقلاب الكبير في التاسع من نيسان عام 2003 وسقوط النظام الدكتاتوري الاقصائي فيه على يد الجيش الأمريكي ، ومعه تغيرت المعادلة السياسية والاجتماعية ، وظهر الشيعة العرب كواجهة سياسية للعراق الجديد ، وأصبحوا رأس هرم السلطة فيه ، في ظل ظروف سياسية وأمنية مضطربة ومعقدة ساهم المحتل الأمريكي في صناعتها .. إضافة إلى العوامل الإقليمية ، فاغلب النظم السياسية العربية قد رفضت ولو سرا هذا التغيير في المعادلة السياسية في العراق لأسباب طائفية ، كون النظام السابق كان امتدادا لمتوالية تاريخية ذات طابع طائفي حكمت المنطقة العربية لقرون طويلة ، لذلك وجد القادة الشيعة أنفسهم في معترك سياسي وطائفي داخلي صعب جدا مدعوم خارجيا ، ادى الى إحداث الفوضى التي يعيشها العراق اليوم ، ساهمت هذه الفوضى في غياب المشروع الوطني وأربكت أداء جميع الحكومات التي توالت على حكم العراق بعد سقوط الصنم ، مما أدى إلى تفشي الإرهاب وظهوره بأبشع صوره ، وضياع ثروة العراق نتيجة الفساد الإداري والمالي الذي نخر جسد الدولة .
لكن كل هذه الأسباب لا تبرر للقادة الشيعة فشلهم الكبير في قيادة العراق ، وعدم قدرتهم على التحول من فكر المعارضة إلى فكر السلطة .. وأضاعوا فرصة تاريخية كان بإمكانهم ان يثبتوا من خلالها للعالم بأسره .. بأن شيعة العراق عندما أتيحت لهم الفرصة في قيادة العراق ، طرحوا أنموذجا إنسانيا وحضاريا ، أكد مظلوميتهم على مدى القرون الماضية .. لكنهم فضلوا مصالحهم الحزبية والفئوية على مصالح الجماهير التي أوصلتهم إلى سدة الحكم أ واغتنى الكثيرين منهم على حساب المال العام ، وبقيت مدن الوسط والجنوب التي تحتضن الأغلبية الشيعية تعاني من الفقر والإهمال ونقص الخدمات وانعدام العدالة الاجتماعية .. على الرغم من ان هذه المدن لم تشهد تصعيد امني كبير في السنوات الماضية ولم تحتضن الإرهاب ، فأهدرت المليارات من الدولارات على مشاريع وهمية واستنزفت ثروة العراق دون أن يلمس المواطن العراقي أي شيء على ارض الواقع .
كما أنهم فشلوا في الانسجام مع شركائهم في الوطن ( الكرد والعرب السنة ) .. وإيجاد مشتركات حقيقية وخطوط عريضة تمكنهم من قيادة العراق بنجاح ، فالسنة العرب في العراق لا زالوا وعلى امتداد الاثنا عشر سنة الماضية يعيشون وفق هاجس الخوف من المستقبل ، لذلك لم يستطيعوا تقبل ما آلت إليه الأمور ، ويحتاجون الى قدر كبير من التطمين والصراحة في مواجهة الحقائق من القادة الشيعة ، واما الكرد فلا زالوا مكبلين بعقدة الماضي القريب وما لاقوه من ظلم وتهميش من الانظمة السياسية التي توالت على حكم العراق قبل 2003 لذلك هم يسعون الى اخذ اكبر قدر من المكاسب والامتيازات على حساب الأغلبية الشيعية التي ظل قادتها يقدمون هذه التنازلات للحفاظ على العملية السياسية العرجاء .. والإبقاء على تحالف شيعي كردي عفا عليه الزمن .
اعتقد ان الفرصة لا زالت سانحة أمام القادة الشيعة لإعادة الأمور إلى نصابها والعبور بهذا البلد الجريح بكل اطيافه إلى بر الأمان .. وان التظاهرات التي تشهدها معظم مدن العراق المطالبة بالاصلاح والقضاء على الفساد ، ما هي الا بارقة امل كبير لاصلاح ما فسد ، وعلى التحالف الوطني الشيعي الحاكم ، ان ينفض من عبائته جميع السراق والفاسدين ، ويعيد بناء جسور الثقة مع قواعده الجماهيرية المظلومة على مر التاريخ .