“الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَاب”.
يتكهن البعض ومنذ الانطلاقة الاولى للتظاهر التي جرت في الآخر من شهر آب 2015 على انها “صحوة”، وقال فريق آخر ربما تفضي إلى “اعتصامات وعصيان مدني”، بينما ذهب القسم الأكبر بوصفها ب “الثورة”.
وهي اضافة لما تكهنوا، فهي إن صح التعبير: “سخط شعبي”، و”نفاذ صبر جماهيري” و”فورة”، وهي “صيحة” أو “مخاض عسير” لتشكيل “دولة مدنية لاشرقية ولا غربية”، تؤمن بالتغيير والإنقلاب وتنفذ الإصلاحات الناجزة، وتحارب الفساد والتطرف والطائفية والمحاصصة من أجل تنفيذ مطالب الشعب وتطلعاته في العيش الكريم، واقامة انتخابات مبكرة إذا تطلب الأمر ذلك، وتأخذ على عاتقها العراق إلى بر الأمان من خلال تشكيل نظام حكم مدني جديد يحقق مطالب الشعب ومنتفضيه، ويؤسس للعدل والمساواة والسلم الأهلي والاجتماعي، ويؤسس لسيادة الأمن والامان بما يتناسب وطبيعة رقع العراق السكانية والجغرافية، ويقضي على الفساد والمفسدين بمحاكمات عاجلة وعادلة، ويسعى لإعادة الأموال العراقية المسروقة والمنهوبة، والقضاء على البطالة وتشغيل الشباب واحتوائهم، والاهتمام بشؤون المرأة والطفل، وتأمين الخدمات على مستوى جميع الصعد الانسانية والنواحي المجتمعية، وانجاز جميع الإصلاحات في مفاصل الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية التي غمرها الفساد واجتاحتها الطائفية والحزبية والمحاصصة، وإعادة العراق لمكانته المعهودة.
وقد يواجه النظام السياسي الجديد ان أقر له أن يرى النور، تطفل عصابات داعش المعهود وغطرستها في احتلال أرض العراق، وفي نفس الوقت تواجه عدة أزمات من أهمها: الأزمة الاقتصادية الناجمة عن مقاتلة داعش وما تركه الفساد المالي والاداري الذي افرغ الخزينة من اموالها، والاسراف الباذخ الذي يمثل الوجه الثانوي للفساد، والعجز المالي الناجم عن انخفاض أسعار النفط بشكل مريب، وآثار أزمة لإزالت مستعرة ومازال الاقتصاد العراقي يعاني من نتائجها الإقتصادية والمالية الوخيمة وويلاتها المجتمعية والانسانية الكارثية لحد الآن، الا وهي حرب الخليج الأولي ذي السنوات الثمان، وحرب الخليج الثانية المتعلقة باحتلال دولة الكويت الشقيقة، وما اعقبها من التزامات وحملات عسكرية وحروب أهلية، وما تعرض له العراق من احتلال أمريكي أسهم في تحطيم الماكنة العسكرية برمتها والتي انفق عليها آلاف المليارات، وتخريب الاقتصاد العراقي بالكامل.
في جميع الأحوال، وتحت ظل أية حكومة سواء كان رئيسها السيد العبادي أو غيره فالشعب يريد الاصلاح الشامل والحقيقي والناجز لنظام الحكم، ذلك لأن إصلاح النظام يقع حصرا في مقدمة أولويات مطالب المتظاهرين، ولكن تطبيق الإصلاحات قد يحتاج إلى وقت مناسب ربما يتقاطع مع صبر الشعب العراقي، وثانيا قد يشكل هذا المطلب تحديا محرجا للحكومة بسبب إن معظم المفسدين والمقصرين يرضخون تحت مظلة الاقطاعيات السياسية المتنفذة بالبلد والمتحكمة بإرادته السياسية والتشريعية والقضائية، والتحكم بقراره التنفيذي لدرجة أن السيد رئيس مجلس الوزراء رغم التفويض الحوزوي والشعبي الذي حصل عليه نراه يحسب ألف حساب لاستصدار أي قرار اصلاحي وإن كان ترقيعيا هامشيا ويكأنه يترائي للناظرين كأنه في حالتي ترقب وتردد شديدين.
إن تعثر الإصلاحات وكما يبدو عليها في الظاهر انها لن تتعدى أجرائات الاوامر الادارية الترقيعية لحد اللحظة، وهو أمر لا يختلف عليه اثنين، أما من كان قريبا من مصادر صنع القرار فله رؤية مختلفة تماما عما يراه الآخرون، لماذا؟ ذلك لمعرفته لما يدور في خلف الكواليس، وهذا يعود لمعرفته أيضا بالقيود التي وضعها الدستور في معصم الحكومة، والتي إذا اخترقت ربما سيؤدي هذا الاختراق إلى الخروج عن السيطرة سيما أن بعض الدوائر السياسية ومجموعة الفاسدين أضحوا بحالة تربص وترقب شديدين لانتهاز هذا الخرق لدفع الأوضاع السياسية والامنية نحو ساحل الفوضى الخلافة والهرج والمرج لخلط الأوراق السياسية والجرمية والجنائية ومن ثم بعثرتها لتكتمل حلقة الفساد في التبديد والتشتيت، وفي تلك الحالة “يضيع الخيط والعصفور” فضلا عن أن تلك القيود وفي الأجواء المثالية والظروف الطبيعية ستساهم حتما وبشكل مباشر في تحديد مساحة القرار ورسم خارطة الطريق التي يتوجب على الحكومة سلوكها وتتبعها، فكيف اذن ما سيكون عليه الحال في مثل هذه الظروف الاستثنائية، الأمر الذي يستوجب وبشكل فوري لا يقبل التأجيل الشروع بتشكيل لجنة خبراء لتعديل فقرات الدستور التي لا تتناسب مع الوضع القائم، والتي لا تتناسب كذلك مع الواقع التنفيذي الذي يلبي مطالب المتظاهرين في التغيير الشامل وعلى وجه السرعة.
والأمر الآخر طبيعة رؤية الكتل والأحزاب المتباينة في نوع الإصلاحات وسلمها.
وثالثا حجم تحديات التدخل الخارجي في صنع القرار والتأثير على ارادة الحكومة عند استصدار نوع القرار ومساحته.
ووفق هذه المعطيات والمسلمات فإن القضاء والدستور ومن يدعي احترام الدستور والتمسك به ومن يقف خلفه من السياسيين على شاكلة “كلمة حق يراد منها باطل” سيقفون جميعا حائلا بوجه السيد العبادي حتى -وإن ضرب بيد من “يورانيوم”- ومنعه دون تنفيذ الإصلاحات خاصة إذا كانت تلك الاصلاحات جذرية وحقيقية تتلاءم ومطالب الشعب.
لحد الآن لم يلمس الشعب إصلاحات جذرية وحقيقية، بحقيقة أنه “يجب أن يبدأ الاصلاح من رأس الهرم نزولا إلى القاعدة”، ولكن الذي جرى هو غير ذلك تماما، والذي تحقق هو بمثابة تعليمات وتعديلات ادارية ترقيعيه لا ترتقي لمستوى مطالب المتظاهرين، ولن تشف الغليل، وذلك ربما يعود للاسباب التي ذكرتها آنفا، وفي هذه الحالة فإن السيد العبادي إن لم يبادر ويسرع في تنفيذ الإصلاحات فيحتمل أنه سيواجه أمرين اثنين:
الأول قد يضطر مجلس النواب لسحب الثقة من السيد العبادي ليقتل “عصفورين بحجر واحد”، والثاني قد يضطر المتظاهرون في واحدة من ايام الجمع القادمة بسحب التفويض الذي منحه الشعب له وقد تبارك المرجعية هذا الاجراء، وفي الحالين فإن سحب الثقة والتفويض من السيد العبادي سيخلف في حدوده الدنيا “أزمة حكم” و”فراغ سياسي وأمني وقانوني” مامن شأنهما أن يؤثرا على معطيات ومقدرات الوضع الراهن للبلد، والتأثير على العملية السياسية برمتها.
اسمحوا لي ان أجري مقارنة بين حجم حزم الإصلاحات التي أطلقها السيد العبادي لحد الساعة وبين حجم الفساد الذي املق العراق وانتهك أمنه وسيادته في مثالين اثنين:
الأول: طبقا لما أعلنته السيدة ماجدة التميمي عضو لجنة المالية في مجلس النواب الذي جاء فيه أن ما مجموعه “4600” مشروع وهمي، كلفت الخزينة “228” مليار دينار ما يساوي”189″ مليون دولار، لم ينفذ منها مشروع واحد لأنها وهمية كما اسلفت.
والثاني: مقارنة أخرى تعبر عن مدى ضعف الأجهزة الامنية وعدم كفاءتها لأسباب قد تعود للفساد المستشري فيها أو لأسباب المحاصصة بعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وهي حالة “اختطاف السيد وكيل وزير العدل ومدير عام التحقيقات في الوزارة من يوم الثلاثاء الموافق للثامن من أيلول 2015” شرقي بغداد في وضح النهار. وبهذه المقارنة البسيطة من مثالين اثنين من أصل مئات الأمثلة من مظاهر الفساد إن لم أقل آلاف، لم نجد تكافئا ولو بنسبة ضئيلة بين حجمي حزم الإصلاحات التي أطلقها السيد العبادي وبين حجم ظاهرة الفساد في هذين المثالين فقط، فهل وجدتم ما يثبت ادعائي؟؟.
وأترك الجواب للقاريء الكريم !!.
وعلى السيد العبادي للخروج من هذه الأزمة، عليه أن يسعى جاهدا وبالسرعة الممكنة، لتشكيل لجنة خبراء لاعادة النظر في مواد وفقرات الدستور بما يواكب الوضع الراهن، لتحقيق التوازن التشريعي والقانوني في نظام الحكم وتطبيقاته، ولتحقيق مطالب الشعب في انجاز الإصلاحات والخروج من هذه المحنة بما يحفظ سيادة العراق وكرامة الشعب العراقي ووحدة ارضه وسمائه واستعادة ترابه المغصوب من قبل داعش، ويا حبذا لو تعزز هذه الخطوة بخروج حشود مليونية تعطي مزيدا من الدعم والتفويض للسيد العبادي ويزيد من رقعة مساحة صلاحياته واجراءاته نحو الاصلاح الحقيقي والشامل بما يشبه حالة “الانقلاب”، وفي هذه الحالة يوضع “الدستور تحت المجهر” ولحين تعديله لينجلي الموقف، وستأتي الخطوات اللاحقة في انجاز الاصلاح تترا، إذ لاعقبة أخرى تواجه الحكومة في سبيل الاصلاح إذا كانت عازمة على ذلك، الا ما يتأتى من كان في قلبه مرض، ومن كان من المتخرصين والمتأزمين الفاسدين.
والله ولي التوفيق.
“وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ”.