وضعت التظاهرات في بداية انطلاقتها مطلب توفير الكهرباء أساسا في حراكها، لكن لم تحتفظ الكهرباء بموقع الصدارة في مطالب المتظاهرين، فبعد أسبوع واحد فقط من اندلاع شرارتها في البصرة، هتفت الحناجر لمحاربة الفساد والاقتصاص من الفاسدين، ثم لم يلبث ان تصدر شعار ثالث هو إصلاح النظام.
قد يبدو للوهلة الأولى ان هذه الشعارات متناقضة، لا انسجام بينها ولا تناغم، تدفعها العفوية ذاتها التي كانت وراء انطلاق المظاهرة الأولى في البصرة، والتي سقط فيها الشاب منتظر الحلفي شهيدا. لكن عند التمعن في ارتباط المطالب مع بعضها، نجدها منسجمة في إطار منهج واضح، لا لبس فيه. اذ ان الفساد هو الذي استنزف الموارد التي خصصت لقطاع الكهرباء، لذا فمحاربة الفساد هي مدخل الحصول على الكهرباء. ومن جهة أخرى، لا يمكن ان تحارب الفساد وتحاصره، وهو يحتمي بالطائفية السياسية، ويتمترس في مفاصل الدولة ومؤسساتها. لذا فان إصلاح الن?ام السياسي وتخليصه من الطائفية والفساد معاً، هو المدخل السليم نحو محاصرة كبار رؤوس الفساد، ووضعهم أمام القضاء العادل. وكذلك لا يمكن محاسبة الفاسدين في ظل قضاء خاضع لابتزاز المتنفذين، قضاء لا يستثمر استقلاليته التي منحها له الدستور، كي يقول كلمته واضحة شجاعة وبقوة في وجه رموز الطائفية والفساد. وقد غدا واضحاً ان الأساس في إصلاح النظام السياسي، يكمن في إصلاح السلطة القضائية وتخليصها من الفساد والخضوع لرأس السلطة التنفيذية، وحمايتها من ابتزاز الطائفية السياسية، سواء لجأ الطائفيون الى مغازلة القضاء بمعسول الكلام الناعم، او بإشهار المخالب الجارحة.
إذن هناك وضوح في طرح المطالب، وما التشابك الذي يتوهمه البعض إلا نتيجة للاعتقاد ان التظاهرات بقيت أسيرة العفوية منذ انطلاقتها، وهذا مجاف للحقيقية وللواقع. فالتظاهرات بدأت تنظم نفسها في اتجاه عام معتدل واضح، يذهب الى إصلاح النظام السياسي والعمل ضمن ممكناته، وهي كثيرة وغير مكلفة، ومنها إعادة بناء النظام السياسي على وفق مبدأ المواطنة، بدلا من الأساس الطائفي الذي هو أس البلاء وأساس هذا الاعوجاج في بنية النظام، الذي أنتج الفساد وحمى المفسدين.
لذا فان نظاماً يبنى على قاعدة المؤسسات الدستورية، يكون فيه القضاء قويا، يكون طاردا للفساد فلا تمتد يده الى تخصيصات الخدمات، ومنها الكهرباء.
لقد اختزلت مطالب إصلاح النظام ومحاربة الفساد وتأمين الخدمات الكثير جداً من الشعارات الفرعية التي تم رفعها في التظاهرات. فتنوع هذه الشعارات والهتافات، لا يغير شيئاً من حقيقة ان المطالب الثلاثة المذكورة هي الأساسية.
اما مطلب الدولة المدنية الذي يتم ترديده بكثرة، في اغلب المحافظات، فهو ليس رفضا للدين، كما يحلو لمناهضي المظاهرات تصويره، ولا من يرفعه يعتقد ان الدولة الحالية هي دولة دينية. وانما هو رد فعل على المشاريع الطائفية التي قسمت الشعب العراقي إلى ولاءات فرعية، وطوائف وأضعفت نسيج الشعب العراقي وأوهنت قواه. فمطلب الدولة المدنية يعني فيما يعنيه دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، دولة المؤسسات الدستورية، دولة القانون والعدالة والإنصاف.