18 ديسمبر، 2024 9:51 م

شعب استغل فجأة إحدى فجوات الزمن للانفلات من معقل الاستبداد الشرقي المصنوع من سلاسل الأحكام السلطانية الصدئة، دون المرور بالضرورة عبر جحيم الفتنة الحارقة.

هذا العنوان بكل تأكيد وبلا أدنى مواربة، على وزن “قلق في الحضارة” لسغموند فرويد، ولربما فيه شيء من “قلق في العقيدة” كما أظن، وفي كل الأحوال بوسعنا الكلام عن “قلق في تونس” من حيث هو قلق حضاري بالمعنى الفرويدي، وكذلك قد يكون القلق قلقا عقائديا في نفس الآن. لعله قلق شامل يعتمل في الوعي والوجدان، ويعمل في كل لحظة على تعميق اللحظة دون أن يتخطاها، أو ليس بعد. لعله قلق المرحلة الانتقالية إلى “ما بعد” لم تتحدد ملامحه بعد. هو أيضا قلق لا يمكن إخضاعه لأي حكم أخلاقي مسبق، فلا هو بالإيجابي مطلقا ولا هو بالسلبي كذلك. لنقل إنه غير قابل للتوصيف وكفى. وهل يكون القلق قلقا حين يصبح موصوفا؟ إنه قلق المخاض الذي يعرفه شعب ينتمي إلى المجال الحضاري العربي الإسلامي، أو هكذا شاءت له أقدار الجغرافيا ومصائر التاريخ، شعب استغلّ فجأة إحدى فجوات الزمن للانفلات من معقل الاستبداد الشرقي المصنوع من سلاسل الأحكام السلطانية الصدئة، دون المرور بالضرورة عبر جحيم الفتنة الحارقة، كما كان يحدث ولا يزال يحدث داخل مجتمعات التقويم الهجري كافة. إنه قلق دفين في النفوس والرؤوس، يتراءى في كل ما يقال ويُكتب يوميا وفي اليوميات، ويتوارى خلف مظاهر التمدن التي تسم شعبا صارت المؤسسات لديه حاضرة في الأذهان قبل الأعيان، شعب يريد الحياة قولا على حد قول شاعر تونس أبي القاسم الشابي، وفعلا على حد مشاهد الشارع اليومي. هنا لا السكارى يعربدون، ولا التائهون يتحرّشون، ولا تغيب المناصفة الجندرية حتى في مقاهي أحياء تونس القديمة. عموما، في فضاء القلق العمومي متسع للجميع.

لقد أمسى مفهوم الانضباط راسخا في النفوس. لذلك، منذ اليوم الموالي لهروب زين العابدين بن علي استمرت كل المؤسسات والإدارات العمومية والمنشآت الخاصة في أعمالها دون أن تتوقف ولو لساعة واحدة. لم تتعطل عقارب الساعة، لم تتأخر مواعيد وسائل النقل، لم تتوقف الخدمات العمومية، كان الأمر أقرب إلى “المعجزة الثورية” مقارنة مع الشعوب التي أسقطت طغاتها في سياق متصل.

لكن الذي سيحدث، وهنا وجه المفارقة، أن بعد أولى انتخابات شهدتها تونس عقب الثورة، وبعد صعود “حكم الترويكا” بقيادة جزء من الإسلام السياسي، بدأت إستراتيجية تفكيك الدولة من الداخل تعتمل على المكشوف، تحت طائلة استكمال مهام الثورة. وهو ما أثار حماسة الذين سينخرطون في تشكيل ما كان يعرف بـ“روابط حماية الثورة”، أسوة، وهنا مكمن الخطر، بإحدى أشهر التجارب في التاريخ، تجربة “الحرس الثوري” الإيراني الذي تشكل عقب الثورة وانتهى إلى التغول ثم ابتلاع الدولة في الأخير، بل يوشك أن يقضي اليوم على المذهب الشيعي نفسه محولا إياه إلى مشروع للهيمنة الأيديولوجية وتصفية الحسابات الجيوستراتيجية.

إن ما يحدث اليوم في تركيا هو الخيار الذي كادت تسبق إليه تونس عندما جرى بجرة قلم طرد الآلاف من الموظفين الكبار في زمن قياسي وخارج إطار أي محاكمة، وكل ذلك بدعوى تطهير الدولة من الدولة العميقة ومن رموز النظام القديم. إجراء كان أقرب إلى رد الفعل الانتقامي الشعبوي والمناهض غريزيا لمنطق المؤسسات، وهو الإجراء الذي حرم إدارة الدولة من الكفاءات العلمية والفنية، فأوشكت الدولة على الانهيار لولا قوة المجتمع المدني ونباهة النخب. لقد كان قانون “العزل السياسي” في ليبيا وحده كفيلا بتفجير حرب أهلية بلا أول ولا آخر، وكاد نفس المنطق يفجر الحرب الأهلية في مصر، والتي أفلتت من الأسوأ دون أن تتفادى السيئ. غير أن الخطيئة الأصلية تكمن في منطق العزل الذي كان يعني بكل بساطة مسح الطاولة والبدء من لحظة الصفر، وهذا محال في مسار المؤسسات.

للتذكير، بعد عودة الديمقراطية والملكية معا في إسبانيا، لم تتخلص الدولة بسرعة من رجال الدكتاتور فرانكو، بل حافظت على معظمهم، باستثناء من تأكد تورطهم المباشر في جرائم جسيمة، وبالدليل القضائي المؤسساتي. وليس مستغربا أن يكون هؤلاء بالذات من سهلوا عملية الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، طالما كانوا يمتلكون المفاتيح الرّئيسية لفتح الأقفال دون الحاجة إلى تكسيرها.

في المقابل، لقد انتهى مآل ما كان يعرف بالربيع العربي في المستوى الإقليمي إلى خيارين قصويين: الخيار الليبي حيث تأكل الفتنة اليابس والأخضر، والخيار المصري حيث يجثم الاستبداد على الأنفس ويحصي الأنفاس. بين الخيارين تحاول تونس اليوم أن تشق لنفسها وبنفسها الطريق الثالث، طريق الانتقال الحداثي الديمقراطي بكل أبعاده.

ثمة اليوم في الداخل التونسي نقاش عمومي واسع يشمل كل القضايا والملفات بلا تابوهات ودون خطوط حمراء، ندوات شبه يومية ذات طابع فكري وسياسي وحقوقي، سواء في الإعلام أو داخل الفضاء العمومي. اليوم لا أحد في تونس ينتظر المهدي المنتظر. بل لعل النزعة المهدوية نفسها كانت الآفة الأيديولوجية التي أصابت الإسلام السياسي واليسار المؤدلج على حد سواء. اليوم، لا أحد يرى أن ثمة من يملك عصا سحرية لحل المشاكل.

لذلك يتعلم المواطنون كيف ينظرون إلى الشأن السياسي بقدر كبير من المسؤولية والتنسيب والتروي، ويدرك الكثيرون بأن معركة تحديث العقول قد بدأت.

فقط في تونس بوسع المرء أن يرى نساء حداثيات شكلا ومضمونا (نعم، شكلا ومضمونا) متخصصات أكاديميا في الفقه وأصول الدين. بلا شك، فإن الشكل كما يقول نيتشه هو الجوهر عينه. فقط في تونس ترى حراكا فكريا متمحورا حول مسائل الإصلاح الديني دون أيّ عقدة نقص، أو عقدة ذنب، أو عقدة خوف. هناك توجّه عام نحو التوافق على أن احترام الدين واجب، وأن تحديثه واجب أيضا. فلا هذا بلا ذاك.

من تونس انطلقت موجة الثورات السياسية تحت مسمى “الربيع العربي”، ومن تونس يُرجح أن تنطلق موجة الثورات الثقافية، تحت مسمى “ربيع الإصلاح الديني”، أو هذا هو المأمول في الحساب الأخير. قلق تونس هو قلق المخاض.
نقلا عن العرب