18 ديسمبر، 2024 10:45 م

بعض جوانب الخلل في نظرية ” القارئ المتلقي” النقدية

بعض جوانب الخلل في نظرية ” القارئ المتلقي” النقدية

لقد لاقت نظرية التلقي أو التقبل إهتماما كبيراً وعميقاً في الفترة ألأخيرة من قبل النقاد، حتى أصبحت محور دراستهم وأبحاثهم النظرية والتطبيقية، بحيث إرتبطت هذه النظرية بالقارئ الى حد كبير.

وإذا ما إستطعنا أن نعدد المراحل التي مر بها النقد الأدبي وتطورها، فنجدها عشرة مراحل، بدأت بمرحلة التذوق، ثم مرحلة التاريخ الأدبي ومرحلة النقد الأدبي النفساني تلتها مراحل “المرجع الواقعي”، والواقعية الإشتراكية والبنيوية التكوينية والبنيوية اللسانية والسردية، وبعدها “مرحلة السيميائيات” و “مرحلة الإسلوب” و”مرحلة الثيمة” وحتى مرحلة ما بعد الحداثة.

ويعتقد منظري النقد الأدبي، بإن الإهتمام بالقارئ لم يظهر إلا بعد مرحلة البنيوية والسيميائيات، حيث تم التركيز كثيراً على النص بأي شكل من الأشكال بإعتباره مجموعة من البنيات الداخلية المغلقة، وهنا شعر السيميائيون بأن النص أخذ حيزاً كبيراً من الإهتمام وعلى حساب القارئ المتلقي، حتى جاءت مرحلة “ما بعد الحداثة ” ليعاد النظر فيها الى أهمية القارئ المتلقي .. حيث بدأت التنظيرات تبرز دوره كعنصر فعال في تناول النص وعملية التأويل و الإدراك والسرد والقص.

كل هذا التوجه والحماس لمسألة المتلقي، قد جاءت كرد فعل على إهمال السياق الخارجي، وصب الإهتمام على النص ذاته .. وبهذا فقد جاءت مسألة التلقي أو الإستقبال لتقلب المقولة تماماً، وتركز على أشكال النصوص المتعددة التي تبلور إنتاجه وتلقيه. وبهذه المرحلة فقد تولدت حركة أدبية توصي بأن أستقبال النص يستتبع الإهتمام بالقارئ وبعملية القراءة وتأويل النص وتحديد معانيه .. وتم طرح السؤال المركزي “من هو القارئ” وكيف يتلقى النص ويستقبله، وصار الشغل الشاغل لمبدعي الأدب هو البحث عن هويه القارئ وشعوره بلذة النص ومتعة القراءة وإشباع الرغبة لديه.

وبهذا فقد توجه بعض منتجي الثقافة والأدب الى منهجية تقوم على الإدراك التوقعي والإفتراضي المسبق، والتأويل الذاتي.

بالحقيقة، أن الحديث عن القراءة التي تعتمد على الشرح والفهم والتفسير، والباحثة عن المعاني التي يزخر بها النص والتي نسميها ب “التأويلية”، فقد بدأت مع “فرويد” وتحليلاته النفسية.

وفي مضمار البحث عن نوازع القارئ المتلقي، ظهرت توجهات غريبة، أطلق عليها “سوسيولوجية القراءة”، مثّلها المُنظر “روبير إسكاربيت” وهي تبحث عن الشروط المادية والنفسية المؤسسة لمباشرة القراءة، بالتركيز على الإنتاج والتوزيع والإستهلاك، ومن هنا فإننا نعتقد بأن ما يسمى بسوسيولوجية الأدب، ماهي إلا قراءة تجريبية للنتاجات الأدبية والتي تقترب الى إستكشاف الجدوى الإقتصادية، وهي تبتعد عن التوجهات الحمالية للنص.

كل ذلك حدث بإسلوب مبالغ فيه لإعطاء قيمة للتلقي أحيانا أكثر وأكبر من حجمها الحقيقي. مما دعاني أحيانا أن أتساءل عما هو جديد وما هو

مكتشف عن دور التلقي والمتلقي وألم تكن جل الآداب منذ نشأتها الأولى بالقص الشفاهي المتداول بين الناس قبل بداية التاريخ وفي حضاراته الأولى و بعدها وحتى في معلقات العصر الجاهلي، تحاول إجتذاب المتلقي سمعاً أو قراءة، بالصيغ التواصلية والجمالية والتأثيرية كونه يستبطن زمكانية تتكشف من خلالها بؤر تسهم في إقتناص الأفق الذي يتوق الراوي أو الأديب الى تحقيقه وهو الطموح والناظر الى الأمام، عبر رؤيته الإبداعية التي تفع النتلقي الى التأويل وإشغال الفكر.

هكذا بالغ المنظرون في تاريخ الكتابة والقراءة الأدبية بدورالمتلقي حد قول “روبرت شولز” بأن “المتلقي هو خالق النص ومانحه الهوية”

وكان السؤال الأهم و المُلح: “هل علينا أن نركز على القارئ المتلقي فحسب، ونهمل دور الأديب المبدع ونتاجه ؟ .

إن كل نتاجات الإبداع الأدبي تأثرت بعوامل نشأتها وما لديها من جمال في البناء والتركيب والصياغة .. والتي لن تغفل إنتظارات المتلقي وتقبله.

علينا ألا نهتم بالقارئ والمتلقي بالشكل المبالغ فيه على حساب النص والكاتب المبدع حيث أن هذا الإتجاه أحادي الجانب، وهو يقفز على التاريخ والمؤلف والنص والمجتمع والنفس والذوق ..

وأخيراً أجزم بأن هذا التوجه لا يمثل إلا نظرية جزئية قاصرة لا تصلح للإحاطة بالنص الأدبي من جميع جوانبه.