من هذه اللافتة التي خطّها المصور الزنجي –شاكر ميم- وعلقها في محلّه , انطلق الروائي في خضم الكتابة عن احداث مهمة وبارزة في حياته النضالية مع اليسار الذي لم يخلُ فصل من ذكره.
يبتكر الاستاذ سلام ابراهيم راوياً غير مشارك يقوم بسرد الاحداث تفصيلياً وبلهجة وسطى بين المثقفين و عامّة الناس لتكون مستساغة ورائعة مع جماليات يضفيها ذاتياً من دون تكلف في كتابة النص.
تضمُّ الرواية سلوكات دالة على بنية النص ورؤياه تحلّت بها الأصوات الروائيّة. فـأبراهيم هو الشخصية المحوريّة التي تدور حولها الاحداث في الرواية رجل يساري فارع القامة ذو ذراعين مبسوطتين ورأس كبير .
يختار الروائي المكان والزمان المهمين في كل نص إذ إن النص الذي يعجز عن تكوين الزمان والمكان الخاصان به هو من النصوص الرديئة كما يقول نزار قباني, يختار الروائي روسيا –الموطن الاول للأشتراكية – مكاناً للرواية ويختار ثمانينات القرن الماضي زماناً لها.
تمثل الاحداث الواردة في الرواية مرتكزاً نفسياً للروائي الذي عانا ما عاناه في سبيل وطن حر وشعب سعيد كان يحلم بهما , لم يتوانى الروائي عن ذكر جميع الاحداث في ذلك الزمن صغيرها وكبيرها لما فيها من اهمية وتوثيق لما جرى له في ل تلك الظروف.
في بداية الرواية يدخلنا الاستاذ سلام في جو عاطفي مشحون بالألم عندما تغادر زوجته وطفليه الى المجهول – كما يذكر- وما فيه من الخوف على مصيرهم المعتم في دولة جديدي العهد بها.
سرعان ما يخرج الروائي من جو الخوف الدائم عليهم الى ذكرهم بين الحين و الآخر بين طيّات الرواية عندما تدخل متشردة روسية الى حياته بالصدفة لتنسيه بعض الذي لاقاه من الفراق الجمّ لكنها ايضاً ليست سوى لحظة وتغادر هذه المتشردة حياته فتظل تدقّ الباب ولكنه لا يفتح لها .
فيزيقيا النص تختلف عن سواه كثيراً حيث يبتعد عن التكلف واختراق الواقع بما لا تطيقه الذائقة الادبية.
يلاحظ أيُّ قارئ لرواية (الحياة لحظة) أن هذا النصَّ لا يسير على مستوى واحد. فهو مرّة ذو مستوى واقعيّ، ، و أخرى ذو مستوى سياسيّ. كما يلاحظ القارئ في الوقت نفسـه أن هذان المستويان يتداخلان في شبكـة العلاقات الروائيّة، وتمتزج، مكوّنةً البناء الفنيّ للرواية.
-المستوى الواقعي:
ان الحكاية التي أشرت اليها قبل قليل ترافق القارئ المتلقي طوال النص اذ يشعر انه يفهم كل ما يدور من احداث الرواية . ان الرواي يسرد علينا حكاية ابراهيم في روسيا وحيداً يمرّ عليه اصدقائه بين الحين والآخر حيث يسكن وحيداً في شقة في احدى ازقّة موسكو ويشرب الفودكا الروسية اغلب الوقت ويدخل في نقاشات طويلة مع اصدقاء الثورة عندما يكونون معاً تؤدي في الغالب الى طرق مسدودة واحياناً تفصح عن اسرار كثيرة لم يتسنَ لأحد معرفتها من قبل.
على هذا النحو يتحرَّك المتلقي ضمن مستوى واقعي لا لبس فيه. ربَّما كان صَوْغُ الحكاية جديداً بالنسبة إليه، أو يضمُّ بعض المبالغة، ولكنه في الحالات كلها نمـوذج لما يجري في الواقع الذي يعرفه، أو في الإمكان حدوثه في هذا الواقع. ويمكن أن أخلص من ذلك إلى أن سلام ابراهيم في هذا المستوى الواقعيّ قدَّم لقارئه إطاراً مرجعيّاً يعرفه، ضماناً لتواصل المتلقي مع الحكاية التي يسردها الراوي. وهذا ما تفعله غالبيّة الروايات العربية، إذ تعتمد الواقع الذي يعيش فيه المتلقـي إطاراً مرجعياً لحكايتها لتضمن تسلية هذا المتلقي وإمتاعه، وتُحقِّق وظيفتها الاجتماعيّة من خلال ذلك. صحيح أن هذه الروايات تتلاعب بالإطار المرجعيّ تقديماً وتأخيراً (الإزاحة الفنية)، تبسيطاً وتعقيداً ومبالغة، ولكنها لا تغادر مبدأ الانعكاس، أو تنظيم معرفة المتلقي بواقعه.
-المستوى السياسي:
رواية (الحياة لحظة) رواية سياسيّة نوعاً ما، ولكنها سياسية بأسلوبها الفني الخاص. وما المستوى السياسيّ الذي أشير إليه هنا إلا الدّمّ الذي يجري في عروق المستوى الواقعي الذي ذكرته سابقاً. ذلك أن سلام ابراهيم في هذه الرواية لم يستعمل الخطاب السياسيّ المباشر تحليلاً ونقداً كما فعل في روايات أخرى، بل رسم بناءً روائياً ذا مستويات واقعيّة وترميزية وسمح للمستوى السياسي ان يتغلغل في داخل النص لا شعورياً خصوصاً عندما يذكر الجناح السياسي للحزب الشيوعي العراقي الذي هو عضو فيه و النضال المسلح في الجبال شمال العراق.
هذا الإطار الفني سمح للمؤلف بتجاوز قواعد تأليف (السيرة الذاتية)، كما رأينا، إلى الترسل الروائي كما تمليه المسرودية نفسها، فسرد، وحلل، ووصف، ورسم المجتمعات، وأيضاً الفترات التي مر بها الأبطال.
– استطاع المؤلف إلى جانب التبئيرين ، الخارجي والداخلي اصطناع (تقنية الحديث)، والأصوات الداخلية، بشكل واسع؛ وبذلك ظهرت (الموضوعية) إلى جانب الذاتية، و (تعددية الأصوات) إلى جانب المونولوجية ؛ وصرنا نتبين حقيقة (المتكلم) في المسرودية ناهيك عن ظهور مشاهد تبرز حياة البطل في العراق موطن الكاتب الاصلي.
السبك جزل، لا تكلف فيه ولا تعقيد؛ والصور الفنية مجنّدة لخدمة المعنى؛ إن بلاغة المجموعة (بلاغة المعنى)؛ وحديثها عن الاغتراب، وتحليل مكابدته، ظل يستند إلى الواقع المعاش حتى آخر النص الذي ختمه بــتراجيديا مؤلمة و بحرفية عالية تمثلت بموت المصور الزنجي *شاكر ميم* محزوز الرأس بطريقة بشعة منافية لكل معاني الانسانية من قبل تنظيم القاعدة الارهابي في العراق. ليطير خارج الفقاعة كما قال في ختام الرواية.