كان تلاميذ الصف الثالث الإبتدائي جالسين داخل الفصل في حال متفرقة ، ما بين مستمع جيد ، ونصف مستمع لشرح المعلم ، بينما كان البعض الآخر في إنشغال بالشغب والثرثرة ، واللجوء لشكوي بعضهم البعض عند معلمهم ، بسبب أن هذا أخذ قلم زميلته ، أو أن تلميذاً شتم زميله أو ضربه أو جلس مكانه ، أما الإلحاح لأجل الذهاب للحمام فكان دائماً المطلب المستمر لتلاميذ الفصل . ولذا كانت نفس الأستاذ رمزي تتأذي من تلك التصرفات الطفولية ، التي تحتاج لأولي العزم من المعلمين كي يطيقونها ، أما الضوضاء والأصوات العالية داخل حجرة الفصل ، فلم يكن يسكتها إلا التخويف بلهجة كلامية جافة ، أو اللجوء للضرب الموجع الذي يرغم الطفل الثرثار علي الصمت ، فلا تسمع له همساً !!
وذات يوم دراسي ، وبينما كان الأستاذ رمزي منهمكاً في شرح درس للغة العربية ، إذ ظهرا تلميذين كانا قد بلغا من الشغب قمته ، حتي ضاقت نفس مُعلمهم ، من تجاهلهما لنظراته وتحذيراته ، وإلتزما التلميذان العند بدلاً من اللين والطاعة ، وكانا في معزل عن سماع نصيحة المعلم ، الذي طلب منهما الوقوف بجوار السبورة ، ثم نهمرهما كثيراً ، ولكن أحدهما لم يتوقف عن مضايفة مُعلمه بإصدار حركات بهلوانية بهدف إضحاك زملائه ، فلما ذهب صبر المعلم من أفعال الطفل المُشاغب ، صفعه ضرباً علي قفاه ، حتي إمتلئت نفس الطفل رُعباً وهلعاً ، أما التلاميذ الجالسين بالفصل ، فدخلوا في حالة سكون غير مسبوق !!
وفي صبيحة اليوم التالي ، حضر والد التلميذ المصفوع علي قفاه ، ونفسه تشتعل غضباً ، وصوته الصارخ يكاد أن يزلزل أرجاء الحرم المدرسي ، إنفطاراً علي إهانة طفله ، بهذا الشكل البشع ، وظل يستنكر الطريقة المؤسفة التي عوقب بها طفله داخل محراب التعليم والتربية !!
أما إدارة المدرسة فدخلت في حالة فزع وارتباك ، عندما فوجئوا بالحالة الثورية التي تسيطرعلي مشاعر الأب ، وبادر مدير المدرسة بإستدعاء المُعلم المُخطي من داخل فصله ، وسأله عما حدث ، فلم ينكر ضربه للطفل ، وحينها ظل َولي الأمر يسُب ويشتم ذلك المعلم ، بل ويسب أهله بفظائع الشتائم التي تهين النفس والكرامة ، بينما كان الأستاذ رمزي واقفاً صامتاً ،
يخشي أن يتفوه بكلمة ليرد بها إعتباره ، خوفاً من أن يكون مصيره الفصل من العمل والطرد ، بقرار من صاحب المدرسة الخاصة التي يعمل بها !!
حاولت إدارة المدرسة إخماد ثورة الأب ، فلم يسمع الأب لذلك ، بل استمر يشتم ، حتي طال صاحب المدرسة بالسُباب ، وكذلك شتم ناظر المدرسة إبن الثلاثة والسبعين عاماً ، إلا أنه بادله الشتائم ، دون خوف من خسران وظيفته ، فهو يتقاضي معاشاً حكومياً ، ويعمل بالقطاع الخاص لتسلية وقته فقط ، ثم حاول الأب أن يمسك بقميص مُعلم اللغة العربية ، ليأخذه لمركز الشرطة ، ويحرر محضراً ضده بإهانته لقرة عينه ، ولكن مدير المدرسة ، إبن الثمانين عاماً ، منع الأب واستنكر عليه رد فعله الأعمي ، خاصة وأنه مهندس كبير، وتبدو عليه علامات الرقي والإحترام ، ثم عاتبه بلغة العقلاء عما بدر منه من سوء تصرف تجاه العاملين بالمدرسة ، وأخبره أن كان الأجدر به أن يكظم غيظه ، ليعرف ما ستفعله إدارة المدرسة مع المعلم الذي إعترف بخطئه بالعقاب المُهين لطفله !!
لم يهدأ ولي الأمر إلا بعدما إعتذر له الأستاذ رمزي ، وبعدما إضطر مدير المدرسة أن يذهب لفصل الطفل ، بخطي يثقلها المرض وكبر السن والشيخوخة ، كي يُطيَب للطفل خاطره ، ثم قرر معاقبة المعلم بخصم ثلاث أيام من راتبه ، وحينها شعر الأب الثري ، الثائرة مشاعره بأنه ردَ جزء من كرامته وكرامة طفله ، أما الأستاذ رمزي فقد حمد ربه أن انحصر مصيره بين الشتائم التي أصابت كرامته ، وبين استقطاع ثلاث أيام من راتبه الهزيل ، بدلاً من الزج به بين صفوف العاطلين ، وبعدها غادر ولي الأمر المدرسة ، والوهم يسيطر علي عقله ، بأن كيف يعَاقَب تلميذ يتعلم بمدرسة خاصة ، مهما أخطئ أو أساء الأدب ، وكيف يُلام هذا التلميذ ولو بالنظرة علي سلوك أزعج به معلمه ، رغم أنه يتعلم بآلاف الجنيهات سنوياً !!
كان الأب مقتنعاً بنظرية كاذبة خاطئة ، بوجوب أن يرفع المعلم قبعته إحتراماً للتلاميذ الذين يتعلمون بأموالهم ، بل وربما ينحني أمامهم وأمام أهليهم تبجيلاً ، فلا حق له في تقييم سلوكهم المعوج … شيئ مستحيل ، فمن المعلم الذي يقبل أن يصبح أسيراً تحت سيطرة تلاميذه بحجة أنهم يتعلمون بأموالهم .. لا أحد المهانه !!
فالمُعلم الحكيم موفور الإحترام والهيبه بحكمته ، وحرصه في الحفاظ علي كرامة وإعتبار من يُعلِمهم .. فإن عاقب ، فلا يمس بعقابه كرامة الآخرين !!