قبل ايام انتشرت في الاعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد فديو وصورا توضح بدقة ما يعيشه العراق من تباين انساني وفكري وثقافي بين مناطق اقليم كوردستان والمناطق التي تسيطر عليها حكومة المركز في بغداد , فالفديو كان لاحد افراد البيشمركة وهو يسقي احد جرحى داعش بعد اسره واحباط هجوم شنه التنظيم على مواقعهم , اما الفديو فكان لاحد عناصر الحشد الشعبي وهو يقطع اوصال شخص معلق ( قيل انه من الدواعش) ثم يحرقه , لتنكشف امامنا قصة مكونين كان يمكن ان يكونا متشابهين لولا ان كل طرف عاش تجربة تختلف عن تجربة الطرف الاخر ادت الى ان يكونا مختلفين في كل شيء بينهما .
فمنذ تشكيله في تسعينات القرن الماضي تبنى اقليم كوردستان مبدا عفا الله عما سلف طاويا بذلك صفحة حقبة البعث ليبدء صفحة جديدة ينطلق منها الى المستقبل دون احقاد وضغائن , معتمدا على فكر علماني يساوي بين مختلف الاديان والمذاهب والقوميات , ومتخذا من المواطنة معيارا اساسيا في تقيم الافراد . فنجح في ترسيخ مبدا التعايش السلمي والتسامح بين مختلف مكوناته , وبنى انسانا كوردستانيا جديدا محبا للحياة , يقدس حريته و يتقبل الاخر محترما توجهاته , وبذلك سجل الاقليم انجازا حضاريا في بناء مجتمع بعيد عن العقد الحضارية والثقافية .
ان افرازات هذه التجربة الحضارية والثقافية في كوردستان ظهرت جلية في تصدي الكوردستانيين لتنظيم داعش الارهابي , فقد دافع الكوردستاني عن تجربته الانسانية ومنع الظلاميين من تهديدها , واستطاع كسر الصورة التي حاولت داعش ترسيخها في الاذهان كونها القوة التي لا تهزم , فكانت البيشمركة اول من هزمتها . وكما كان رائدا في تطوير اقليمه , كان فارسا ايضا في اخلاقيات قتاله . وما الفديو الذي رايناه الا حالة من عموميات التعامل الحضاري لعناصر البيشمركة مع العدو . فالكوردستاني لا يدافع فقط عن الارض , بل يدافع عن مجموعة القيم التي تربى عليها ومن ابرزها الحفاظ على الكرامة الانسانية للانسان .
اما في المناطق الخاضعة لسلطة الحكومة العراقية في بغداد( في المناطق العربية) فالامر يختلف كليا عما تشهده كوردستان . فبعد ازاحة نظام صدام حسين , قفزت الى السلطة احزاب مذهبية تتبنى الاسلام السياسي نهجا لها في ادارة البلد , وحشد الشارع الشيعي خلفها على اسس مذهبية . وكحالة من رد الفعل الطبيعي تشكلت احزابا سنية مذهبية في الطرف العربي الاخر , وانتقل العراق من دكتاتورية فردية تتبنى الفكر القومي المتطرف في وقت صدام حسين , الى دكتاتورية مذهبية تتبنى الاسلام السياسي المتطرف .. وتعارضها مجاميع مسلحة في الطرف الاخر تتبنى النقيض . معتمدين على عقد تاريخية تثير الحقد والضغينة على الاخر وترفض التعايش معه .
عندما تكون الدكتاتورية باسم الله فلا يمكن تحجيمها , اوتحديدها بافق معينة , بل تتعزز بمرور الزمن وتاخذ مديات اوسع , لتتحول بعد ذلك الى توجهات متطرفة توضحت في العراق بوجود القاعدة ومن ثم داعش (في الطرف السني) , والمليشيات الشيعية ومن بعدها مليشيات الحشد الشعبي (في الطرف الشيعي) . واصبحت ثقافة رفض الاخر وعدم التاقلم معه هي الثقافة السائدة في المناطق العربية في العراق . وباتت مشاهد الذبح وحرق الاجساد والتمثيل بها مشاهدا مالوفة للشارع العراقي العربي .. كيف لا وهي ترتكب باسم الله والاسلام والمذهب ؟
لا ندري أي اله يقبل بان يتحول الانسان الى وحش كاسر حتى يرضى عنه ويدخله الجنة .
لقد فشل الاسلام السياسي السني والشيعي في نقطتين نجح فيهما اقليم كوردستان :-
* رغم ثقافة التطرف التي غرستها الاحزاب الاسلامية ( للطرفين) في اذهان الناس الا انها فشلت في توظيف هذا التطرف لخلق مواطن يستطيع الدفاع عن اهدافها , فطوال اكثر من سنة لم يستطع أي طرف ( داعش او مليشيات الحشد الشعبي) من حسم المعارك لصالحه وتحقيق نصر حقيقي على
الاخر , مما يوضح ان التطرف والحقد قد يرسخ ثقافة الاجرام بالتاسد على العزل من المدنيين في ذبحهم او حرقهم , الا انه لا يخلق مقاتلا فارسا يستطيع انجاز نصر حقيقي .
* تقديم حياة كريمة للمواطن العربي في العراق .. فالاسلام السياسي في العراق يعاني من ازدواجية النظرية والتطبيق , ففي الوقت الذي تتبجح احزابه بالدعوة الى الفضيلة والامانة, فان تجارب الاعوام الماضية اثبتت ان ليس هناك من هو افسد ماليا واداريا منها , فقد نهبوا وسرقوا اموال الدولة دون حياء من مجتمع ولا خوف من قضاء او محاكمات , اوصلوا العراق فيها الى المراتب المتقدمة للبلدان الاكثر فسادا وفقرا في العالم . اما في اقليم كوردستان , فرغم وجود نوع من الفساد المالي والاداري , الا ان ما قدمه نظامه العلماني من نهضه عمرانية واقتصادية في سنوات قليلة يعتبر موضع فخر واعجاب للقاصي والداني , رغم المعوقات التي كانت تضعها حكومة بغداد امام حكومة الاقليم لايقاف نهضتها .
وهكذا اصبحنا اليوم امام مجتمعات عراقية متعددة كل له وجهة تختلف عن وجهة الاخر , ادى الى تباين المزاج الثقافي للمواطن في هذه المجتمعات , لذلك فلا نستغرب ان نرى سموا في التفكير في منطقة وظلامية وانحدار ثقافي وحضاري في منطقة اخرى , فالمقاتل الكوردي الذي يتعامل بتحضر مع اعدائه هو وليد تجربة علمانية سامية رقته حضاريا , بينما ذاك الذي يقتل ويذبح ويحرق في الطرف الاخر هو ضحية الاسلام السياسي الذي لم يبق مكان في المعمورة لم يان تحت وطئته سواء كان اسلاما سياسيا شيعيا ام اسلاما سياسيا سنيا .