23 نوفمبر، 2024 10:37 ص
Search
Close this search box.

تحولات العالم العربي 1952- 1982

تحولات العالم العربي 1952- 1982

العالم العربي منذ 1952 حتى 1982، لم يكن استعادة للمرحلة التي اعقبت فترة الاستقلالات، واذا كانت هذه الفترة تشتمل على الاستقلال العربي الذي دفع العرب لاول مرة في تاريخهم الحديث ثمنه ثورة دموية طويلة، فان العرب كانوا في هذه السنوات الثلاثين على موعد مع منطلقات جديدة عدة اصبح من الممكن معاينتها اليوم بهدوء المراقب الموضوعي.

الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته معتمدين على النسخة الفرنسية يتناول بالتحديد التجددات في العالم العربي خلال هذه الفترة، وهو كتاب جماعي شارك فيه باحثون فرنسيون وعرب، كتب كل منهم فصلاً او اكثر. وهؤلاء الباحثون: دومينيك شوفالييه، احمد بيضون، جورج قرم، لوك دو هوفيلس، هنري لورنس، مارلين نصر، ارمان بينيول، نواف سلام.

لماذا هذان التاريخان 1952 و 1982؟

انهما في نظر دومينيك شوفالييه محوران: الاول – هو ثورة الضباط الاحرار في مصر، وقد انطلقت معها الناصرية ومرحلة جديدة من المد القومي العربي. والثاني – هو تاريخ الغزو الاسرائيلي للبنان ودخول القوات الاسرائيلية اول عاصمة عربية هي بيروت. وهذا الغزو ليس مجرد حدث محدد في الزمان والمكان، بل هو ايضاً انطلاق لمرحلة جديدة.

على ما يبدو، تبرز في شخصيات الجماعات الصغيرة او الطوائف وموجات اصطلح الغرب على تسميتها بالاصولية.

يحاول دومينيك شوفالييه في مقدمة الكتاب ان يضيء بعض المحطات في هذه المرحلة، في عودته الى امسها القريب.

المنطقة دعاها البريطانيون الشرق الاوسط من مصر حتى افغانستان في مطلع القرن العشرين، والتسمية استراتيجية اكثر منها تاريخية وثقافية. وقد شاع في الادبيات السياسية الغربية مفهوم آخر للشرق العربي هو الشرق الادنى الذي تعتمده جريدة لوموند، والمفهوم يعني القسم الاسيوي شرقي المتوسط الذي شكل امتداداً للامبراطورية اليونانية في عهد الاسكندر المقدوني ونفوذ الدولة الاموية، وكان ساحة صراع اساسي بين اوروبا ايام الصليبيين وشعوب المنطقة.

المنطقة لا تزال وفية لهذا التراث وقد شهد هذا الصراع مرحلة جديدة حين اتخذ الرئيس الامريكي ترومان مبدأ العمل بمفهوم (العالم الحر) اي اقامة سدود في وجه المد السوفياتي في مختلف انحاء العالم. وهذا يعني استبدال

النفوذ البريطاني والفرنسي الآفل يومذاك بحضور امريكي فعال. اما الاتحاد السوفياتي فقد رأى في الشرق الادنى امتداداً استراتيجياً لاراضيه الجنوبية. يضاف الى ذلك موقع المنطقة كتقاطع استراتيجي بين ثلاث قارات وثرواتها النفطية التي بدأت اهميتها تبرز منذ الحرب العالمية الاولى، اي بعد استخدام المدرعة في القتال وادراك المتحاربين ان كل (قطرة نفط تعادل قطرة من الدم).

العرض الذي قدمه الامريكان الى دول المنطقة المستقلة حديثاً في الخمسينات كان بسيطاً، امريكا تدعم هذه الاستقلالات شرط ان تنخرط الدول المدعومة امريكياً في احلاف موالية لها. وهذا ما شكل غاية المحادثات التي اجراها وزير الخارجية الامريكية وقتئذ جون فوستر دالاس عام 1953، مع حكام الشرق العربي. وعام 1955 قام حلف بغداد الذي ضم العراق وتركيا واكتمل عام 1957، بما دعي مبدأ ايزنهاور الذي تتعهد بموجبه امريكا بتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية لملئ الفراغ البريطاني، وهذا الفراغ كان نتيجة المغامرة البريطانية الفاشلة في غزو السويس بالتحالف مع فرنسا واسرائيل.

كان هناك اذن طوق امريكي بدأ يكتمل، وقد اختار السوفييت اختراقه عبر تشجيعهم لمبادرة عدم الانحياز التي انضم اليها عدد من الدول الاسيوية والافريقية الحديثة الاستقلال، عقدت مؤتمرها الاول في باندونغ (اندونيسيا) عام 1955. وهو المؤتمر الذي أطل فيه قائد الثورة المصرية جمال عبد الناصر زعيماً يتحدث بأسم العرب جميعاً. وقد قرن عبد الناصر الدعوة الى القومية العربية بمقولة عدم الانحياز وقاوم بكل ما استطاع من قوة انضمام أية دولة عربية الى حلف عسكري.

وفي عام 1955، وفر السوفييت لـعبد الناصر، السلاح الذي يدعم هذا الموقف العربي الجديد والمال اللازم لتحديث البلاد عبر اهم مشروع انمائي فيها (السد العالي)، واصبح العالم العربي في قلب (الحرب الباردة)، خصوصاً عبر المواجهة مع اسرائيل.

وهنا دخل العرب مرحلة خيار ثقافي تاريخي صعب، مرحلة الايديولوجيا القومية المعادية للغرب او المتناقضة معه، والحداثة التي يمثلها هذا الغرب عبر وسائل الرفاهية التي ينتجها وفرص النجاح الفردي على الطريقة الامريكية. وبدأت مرحلة صراع ايديولوجي بين المفاهيم الثورية اليسارية والليبرالية والرفاهية الغربية.

ويطرح دومينيك شوفالييه في مقدمة الكتاب ايضاً مقولة الوحدة العربية في هذه الفترة.

لقد كانت الوحدة العربية دعوة غير ان الدول –كيانات التجزئة- هي التي كانت تثبت –الشعب العربي- في الخطاب الرسمي والسياسي عامة. والمصالح الاقليمية المحدودة في الفصل اليومي.

هل انه تناقض غريب؟

يقول شوفالييه بعد هذا السؤال –يجب ان لا نغفل ان هذا الواقع كان ثمرة تجربة جماعية تراكمت على مدى طويل تحدت التفسير الذهني، فقد كانت مستويات العمل والفكر تستجيب لتحدي وسائل وبنيات وايديولوجيات نمو تم ابتكارها خارج العالم العربي…

ويخلص شوفالييه الى ملاحظة –ما جرى في الواقع هو تركيز للفرديات الاقليمية باسم الوحدة ووسيلة هذا التركيز كانت الدولة، حتى الدعوات الى الوحدة انطلقت واستمدت زخمها من بقعة جغرافية معينة وبدعم معين (مصر او سورية…) ولم تحل هذه الدعوات دون صراع عربي – عربي كان رمزه في هذا الجانب وذاك الدور الامريكي والكلاشينكوف السوفييتي.

المرحلة الناصرية يدرسها نواف سلام، في احد ابرز فصول الكتاب، واهمية هذه الدراسة انها تتناول جانب الحضور الناصري في العالم العربي، بالاضافة الى تطور الناصرية في الخطاب والممارسة منذ الخمسينات حتى حرب الاستنزاف وبروز المقاومة الفلسطينية، مع التركيز على دروس الانفصال بعد فشل اول تجربة وحدوية معاصرة بين مصر وسورية (دولة الطوق) التي يفترض ان تضم مصر ودولة مشرقية عربية لحصار اسرائيل.

ويلي هذا الفصل عرض للناصرية في مصر ذاتها بعنوان – من عبد الناصر حتى السادات – بقلم هنري لورنس، وفصل آخر عن ملء الفراغ الذي نجم عن انسحاب النفوذ الاوروبي من المنطقة على يد العرب كتبه ايضاً نواف سلام، ثم عرض لصورة فرنسا في العالم العربي بعد حرب 1967 بقلم ارمان بينيول.

وبعد هذه المرحلة تبدأ علاقة جديدة مع الغرب عرضها دومينيك شوفالييه و – الرهانات النفطية وآفاق التعاون الاوروبي العربي- حيث يطرح جورج قرم محاكمة صارمة للمرحلة التي يصفها (بالانتقال من التخلف الى الارتهان).

اما الحداثة فيحاكمها بصرامة تامة احمد بيضون، فيرى فيها انتقالاً الى تسوية بين متناقضات لا يسلم منها الفكر السلفي الاصولي ولا القومي التحديثي، في تحليل لابرز مضاهر الحداثة العربية في الحياة اليومية والسياسية والادب والفكر والفن.

وينتهي الكتاب بفصلين احدهما عن النماذج الاصولية والآخر عن المطالب والنزاعات، وسوف نركز على هذا الاخير لاهميته، كتبه دومينيك شوفالييه.

يقول شوفالييه، ان عام 1975، شهد محاولة تسوية للنزاع العربي – الاسرائيلي دعاها كيسنجر وزير الخارجية الامريكي الاسبق (سياسة الخطوة خطوة)

لقد ارادت الديبلوماسية الامريكية في حينه ان توفق بين أمن وجود اسرائيل ونفوذها في العالم العربي، في ظروف بالغة الصعوبة. فقد كان العرب قد اجمعوا في قمة الرباط عام 1974، على ثلاث لااءات: لا للصلح مع اسرائيل، ولا للتفاوض معها، ولا للاعتراف بها، وقد كانت تدعم هذه اللااءات اكثرية العالم الثالث في هيئة الامم المتحدة حيث ألقى ياسر عرفات زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، خطاباً في ذلك العام بالذات.

وفي عهد كارتر استمرت الديبلوماسية الامريكية في محاولة حل هذه الكلمات المتقاطعة بين أمن اسرائيل ونفوذها العربي حتى ان الرئيس الامريكي كارتر تحدث عام 1977 عن وطن للفلسطينيين. هذه المرحلة انتهت تماماً مع زيارة السيادات لاسرائيل في تشرين الثاني من ذلك العام.

يقول شوفالييه – لقد ادت زيارة السادات الشهيرة الى القدس الى وضع حد لهذه المضاربات لأن خطابه السخي في الكنيست لم يلق الا جواباً محدوداً جداً من قبل بيغن. ومع ذلك بدأت العملية، وقعت اتفاقات (كامب ديفيد) واصبحت الاستراتيجية العربية ممزقة الاوصال بدون مصر، ومثل سرطان، بدأت النزاعات تتعاقب في الشرق الاوسط من الدول حتى الجماعات الصغيرة، كل الفرقاء المعنيين بالأمر تبادلوا تهمة ممارسة الارهاب وقد كانوا جميعاً على صواب في هذه المعركة التي كانت تنشب من كل النواحي في هذا القتال الذي يجري في الضوء والظل.

وظل لبنان موئل ممارسات عانى منها اولاً السكان المدنيون. وقد شهد فترة هدوء بعد الوساطات الفرنسية وخصوصاً السورية، والتدخل العسكري السوري وانتخاب ألياس سركيس رئيساً للجمهورية في أيار/ 1976 وكان الامل ان تدوم هذه الفترة، غير ان (كامب ديفيد) ساهم في خلط اوراق اللعبة من جديد واضاف الى تعقيدها البالغ تعقيداً جديداً. حتى ان صحيفة يومية بيروتية نشرت سلسلة مقالات تحت عنوان (- حرب السنتين 1975- 1976- من اين اتت هذه الحرب؟).

يقول شوفالييه – لابد من ملاحظة منذ بداية الانتداب الفرنسي على لبنان لم يرتبط لبنان بعلاقات ديبلوماسية مع الدولتين الواقعتين على حدود سورية واسرائيل، باستثناء فترة الوحدة المصرية- السورية من عام 1958 حتى 1961، حين اصبح سفير الجمهورية العربية المتحدة في بيروت سفيراً للاقليمين الجنوبي والشمالي، اي لمصر وسورية معاً.

لقد رفضت سورية دوماً تبادل بعثات ديبلوماسية، الأمر الذي يشكل في نظرها، من وجهة نظر قومية، تكريساً مبدئياً وقانونياً للتجزئة، وقد كانت علاقات لبنان مع سورية صعبة غالباً. فمن الناحية الرسمية هي علاقة (شقيقين) ضمن اطار جامعة الدول العربية. اما اسرائيل فقد ارتبط لبنان معها باتفاق هدنة عام 1949، وفي هذا الوقت كانت اسرائيل ترفض تطبيق قراري الامم المتحدة 242 و 338 اللذين يقضيان بانسحابها من الاراضي العربية المحتلة عام 1967.

ويشير شوفالييه هنا الى ان المرحلة الوحيدة التي خلا فيها لبنان من قوات غير لبنانية كانت منذ عام 1946 حتى 1958. وهذا يعني ان لبنان الذي ارتبط عسكرياً بالصراعات القائمة منذ عام 1958 ولو على فترات متقطعة اصبح بقعة ربما منفصلة للنزاعات القائمة.

ويستطرد شوفالييه هنا الى الوضع الداخلي اللبناني فيوجزه بخلفياته التاريخية، منذ نشأة الدولة اللبنانية الراهنة في مطلع القرن العشرين، فيقول – ان التوتر الذي كان يثير الاوضاع في هذه البلاد يعود في نظر البعض

الى جذور تاريخية قديمة ترتبط بدور العائلات والتجمعات – اي العصبية- و –التجمعات الطائفية-، بالاضافة الى اسباب اخرى ناجمة عن التحولات المعاصرة التي طرأت، لقد ظل الحاضر والماضي متشابكين ومتداخلين جداً في الاذهان وانماط السلوك الجماعية، ثم ان توترات حدثت نتيجة احداث وعدم استقرار، نشير الى اثنين منها كمثال بسبب خطورة نتائجهما على المستوى السياسي والاجتماعي – وصول اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان عام 1948 ونمو المدن الذي اقترنت بالاستثمارات الصناعية والمصرفية ما بين الستينات والسبعينات.

في هذه الدولة التي تأسست عام 1920، كان المسيحيون اكثرية ثم اصبح المسلمون الاكثرية، وبدأ منذ عام 1945 تزايد سكان الطائفة الشيعية التي ضمت الى جانب الوجهاء الاثرياء، افقر سكان البلاد.

لقد ظلت فئة من اللبنانيين متحفظة لوقت طويل تجاه دولة لبنانية منفصلة عن سورية غير انهم تقبلوا واقع الدولة اللبنانية منذ عام 1936 و 1943 و 1958، واعتبروها اطاراً يرتبط معهم مصيرهم. ومقابل ذلك طالبوا بشدة اكثر من الماضي باصلاحات دستورية تقيم وزناً اكثر لعددهم الذي ازداد لمؤهلاتهم في الحكم والادارة والتعليم والاعمال.

وقد بلغ هذا التطور السياسي والديمغرافي عام 1960، مرحلة الازمة بعد نمو اقتصادي توزعت مكاسبه بشكل متباين، وادى الى مزيد من ارتباط لبنان بالمراكز المالية الغربية والى ادخاله وتكامله اكثر مع الاسواق العربية، وهكذا اصبحت المطالب الشعبية ابعد حدة وتشدداً.

في هذه الفترة –يقول شوفالييه- سعى بعض الوجهاء الى استيعاب الاضطراب السياسي الناتج عن هذا الوضع واعتمدوا في السبعينات على القوات الفلسطينية لموازنة الميليشيات التي شكلها حزب الكتائب اللبنانية، غير ان طفرة الحركات الاصولية تجاوزت هذه الجهود. وفي هذا الوقت كانت اليد العاملة تغادر المناطق الريفية في الشرق والجنوب حيث كانت تتوالى الغارات الجوية الاسرائيلية على الفلسطينيين وتتجمع في ضواحي بيروت الصناعية.

والهجرة الى المدينة طالت سكان الجبل ايضاً. لقد تشكلت في اوساطهم طبقة جديدة متوسطة من الموظفين والتقنيين والمهندسين وحاملي الشهادات الجامعية. وهذه كانت تشعر ايضاً بالكبت على يد الوجهاء التقليديين الذين اقترنت بهم الحياة السياسية في لبنان. وقد عبر حزب الكتائب عن ألمه وطموحاته في هذا المجال عبر برنامج سياسي واجتماعي، كما انه استوعب حالة الانقباض التي يشعر بها عدد من المواطنين امام صعود القومية العربية ثم الحركات الاصولية والحضور السياسي العسكري الفلسطيني، وعبر صدامات جديدة عادت المخاوف والشكوك القديمة الى القلوب والاذهان.

وفي 13/ نيسان/ 1975، وأثر مقتل خمسة كتائبيين، تعرض باص فلسطيني في منطقة عين الرمانة (ضاحية بيروت) للرصاص، فقتل فيه عشرون فلسطينياً، وقد كان من الممكن ان تكون هذه المأساة مجرد حادثة رهيبة غير انها كانت بداية للحرب.

ومع هذه الحرب، يرى شوفالييه خريطة جديدة للبنان، خريطة سكانية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، رسمتها الاحزاب والحركات التي تنتمي الى ايديولوجيات ومبادئ عصرية ولكنها تحرك غرائز طائفية قديمة، كل شعر انه اقلية تجاه الآخر، واشتد هذا الدستور بفعل الجيرة الاسرائيلية التي كانت من نتائجها عام 1948، ارغام آلاف الفلسطينيين على ترك منازلهم واللجوء الى لبنان وهؤلاء تحولوا الى مقاتلين من طراز رجال العصابات بدءاً من عام 1967، واتخذوا لبنان قاعدة عمليات لهم اختلطت بالخصومات السياسية والاجتماعية والطائفية والايديولوجية في لبنان وامتدادات هذه الخصومات على المستوى العربي والدولي.

واضيفت سرعة العطب الداخلية والخارجية هذه الى عوامل الضعف المختلفة في الدولة اللبنانية الليبرالية مما جعل من لبنان – وهو مبدئياً ارض لقاء وحوار – ساحة مواجهات في منتهى الوحشية يستحيل ايجاد تسوية لها، وقد يؤدي استمرارها الى اعادة البحث من جديد في كل الحدود التي تركزت بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية، اي في استقرار الشرق الاوسط بكامله.

ويعود شوفالييه الى قراءة ما كتب في الموضوع اللبناني بعد الحرب العراقية – الايرانية ونتائجها السياسية في لبنان والاجتياح الاسرائيلي لثلث الاراضي اللبنانية صيف عام 1982، فيراه لا يزال صالحاً ليومه: ان لبنان المتعددة الطوائف يمثل ومع هذا كله نموذجاً لما يمكن ان يكون عليه دولة صغيرة، اذا استطاع الخروج من آلامه.

ان مصيره يطرح اولاً على بساط البحث ما اذا كانت دولة من هذا النوع ستخضع حكماً الى هيمنة احد جيرانها او بعضهم على المستوى السياسي والعسكري والمالي او انها قادرة على تأمين استقلالها بشكل حقيقي وحل تناقضاتها الداخلية والخارجية وتشكل منطقة يلتقي فيها الآخرون في اوروبا، تمكنت سويسرا وبلجيكا من تحديد خصومات كثيرة عبر الاضطلاع بهذه الخصومات وتحمل مسؤوليتها وتحولتا عبر الجدل الدائر في كل منهما الى عناصر حيوية وتقارب بين التشكيلات المختلفة التي تتألفان منها.

هذا ما حاول لبنان ان يكون عليه منذ عام 1920 وخصوصاً منذ عام 1943. وهذا ما يستطيع ان يتحول اليه بقوة جديدة بفضل موقعه المتميز في شرق المتوسط فيكون نقطة وصل بين الدول العربية واوروبا ولا تتحقق سيادته الا بازدهار هاتين المجموعتين معاً.

ويضيف شوفالييه في مبحثه – سيكون لبنان في هذه الحال نموذجاً لتسوية نزاعات اخرى، خصوصاً المشكلة الفلسطينية لأن الفلسطينيين سيصبحون متى صارت لهم دولة- قادرين على تجميع مواهبهم وتناقضاتهم والتحول الى عناصر ابداع وأخذ وعطاء بين هذه الفئة وتلك وبين الاسرائيليين والعرب، بين كل الذين يتحاربون من اجل ارض ضيقة تتعلق بها ضمائر اليهود والمسيحية والاسلام.

ويعتبر شوفالييه، ان شرعية تكوين دولة صغيرة لا تقوم الا في كون هذه الدول وسيلة لتفاهم داخلي وتوازن في المجموعة التي تقع فيها.

ان مبررات وجود هذه الدول هي في الواقع حماية الميزات- يقصد ميزات الجماعات- التي تبدو متعارضة والتي يمكن ان تتلاشى لتشكل منطقة سلام ومصدر حياد مشع.

اهمية هذا الكلام انه يطرح ما دعي مشروع – حياد لبنان- على اساس انه الشرعية التي تقوم عليها الدولة اللبنانية الصغيرة، كما هي شرعية أية دولة صغيرة اخرى.

مرة اخرى اذن يطرح الحياد حلاً للنزاعات اللبنانية البالغة التعقيد، وكان بديل النزاع… اللا نزاع.

ويقر شوفالييه ضمناً بأن حياد لبنان يرتبط بوضع سلام في المنطقة، طالما ان احد ادواره ان يكون همزة وصل بين العرب واسرائيل. وهنا موضوع آخر ما اصعب القول ان حسمه قريب في المدى المنظور.

غير ان النقطة المهمة في طرح شوفالييه، هي ان شرعية لبنان تستند بشكل اساسي الى صيغة تجمع بين طوائفه وجماعاته. وهذه الصيغة – وفي الافق النظري والعملي – هي قدرته على اقامة دولة مدنية للجميع وبالجميع ومن اجل الجميع.

والمشكلة ليست قابلة لحل على المستوى النظري وحسب، انها ايضاً مشروع تاريخي وسياسي. ويبدو انها لم تطرح حتى الآن على هذا المستوى في مختلف الادبيات السياسية في لبنان وخارجه. وبهذا المعنى تكون الشرعية التي يقترحها شوفالييه للدولة اللبنانية التي ينبغي ان تعود الى الحياة شيئاً من الماضي.

بعض الكلام الذي قيل في هذه الحرب اللبنانية التي يقول هو عنها انها صارت بعضاً من سرطانات صراعات تتآكل بعد عام 1982.

عام 1982، هنا يتوقف الكتاب مبدئياً ويبدو ان افكار شوفالييه تتوقف معه ايضاً.

* الكتاب

Renouvellements du Monde Arabe 1952- 1982, Pense’es Politique at confrontations Internationales, sous la Direction de Dominique chevallier, Armand Colin, Paris, 1986

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات