23 ديسمبر، 2024 10:46 م

ثنائية التسامح والانتقام سباحة في بحر الدم!

ثنائية التسامح والانتقام سباحة في بحر الدم!

القاضي يتجرد من سعار الذئب الجريح
أسست المحكمة الجنائية العليا، عند مطلع الدولة الديمقراطية الحديثة، وعملت نائبا للرئيس فيها، بحكم التراتبية المهنية، وأدت المحكمة مهمتها على أدق وجه؛ لوجود قضاة أكفاء، إنتقيتهم للتأسيس وقنوات العمل الإجرائي، برؤية واضحة، ومن دون إنحيازات فئوية، ولا مجاملات عاطفية.. لا هذا صديقي ولا ذاك عدوي، إنما بموجب متطلبات العمل، التي جعلتنا فريقا متجانسا.. ضروريين ولسنا محبوبين!
ضمت خمسة وسبعين قاضيا، من أساطين العدالة، شهد لي الجميع بالتفوق المهني والجرأة الملتزمة الرصينة، التي تميز الشجاعة عن المغامرة، حققت أعظم منجز في مستهل تاريخها؛ بإعدام الطاغية المقبور صدام حسين، أثناء تسابق الشركات الأمنية، مع عقارب الساعة في اللحظات الأخيرة، قبل الإفلات به من السجن الى مرافئ التحصين، وراء متاريس نيويورك، ساخرا من حكومة كانت ستتهاوى بعد ئذ! جارة الدولة معها، الى مكب الإنهيار!
يومها حركت المكان، عكس إتجاه الزمن وأوقفت دوران الفلك؛ ريثما يسرت على رئيس الوزراء.. حينها.. نوري المالكي، تعليق صدام في المشنقة! بينما شخصيات كبرى تراجعت، عن الإقدام على تنفيذ قرار المحكمة بإعدامه؛ خوفا من طوفان غيظ كاسح، لوح به البعثيون والقاعدة و… آخرون، يستهدف الشخصيات التي تسهم بالتنفيذ، يلوون أذرعهم من خلال التهديد بعوائلهم، وتلك أقسى على أي رجل من نفسه!
لكن لنا في أبي عبد الله الحسين (ع) قدوة حسنة، عندما ترك عياله في سبيل الله.. النساء تسبى والرجال تذبح وهو ينحر فوق مسائل دمائهم، ولم يفرط بالبيعة ليزيد.. لم يخضع للمسغبة.
سجنت لإنتمائي لحزب “الدعوة” الإسلامية، يافعا، وجرجروا عائلتي.. تبعا لي.. نحو دهاليز ظلمات الأمن العامة، وأعدم إثنان من خيرة شباب العائلة، سيقوا الى المعتقلات التي أفضت بهم الى الموت شهداء في سبيل “الدعوة” مأخوذين بجريرتي.. لكنني واجهت صدام حسين، بتجرد القاضي، وليس بإقتصاص الذئب الجريح، ذي الثأر!
حفظت نزاهة القضاء وترفعه عن العواطف، نافذا الى جوهر إستقلالية القاضي عن نفسه، لا يخضع لحقها في القصاص الذي شرعه الله.. رب سانحة يزهد بها المرء أعتدادا برفعته، آن وقوع عدوه.. لا حول ولا قوة له! بين يديه.
لم أنتقم لنفسي؛ إنما أعدمته بوجب القانون، إحقاقا للعدل وإنتصافا لمظلومية خمس وثلاثين سنة من الديكتاتورية، تلاطم.. طوال إمتدادها بحر من دم!
وهذا ما شهد به محامو الدفاع، وحتى صدام قال لي بالحرف الواحد: “لا أرى في عينيك نظرة إنتقام ولا تشفٍ” في حين قضاة بعثيون، طالهم إجتثاث البعث في ما بعد، عالموا المتهمين الآخرين، من قيادة حزب البعث المنحل وحكومة صدام، بقسوة مبالغ بها.. بذاءة وألفاظ طائفية لا تمت لحيادية القضاء بصلة؛ كي يذبوا التهمة عن أنفسهم، متبرأين من إنتمائهم للبعث؛ كي يركبوا الموجة التي كشفتهم في مابعد وأقصوا من الوظيفة.
بموجبات المرحلة الديمقراطية الجديدة، أسست المحكمة الجنائية العليا، ورسمت خطط سيرها على سكة النزاهة؛ ولأن التأسيس رصين، فسدت معظم مؤسسات الدولة، وما زال القضاء متماسك البنيان.. شكلا ومضمونا.