19 ديسمبر، 2024 10:54 ص

أتعبه غرورها وأتعبتها غيرته فأصبحت تواريخ الشجارات بينهم متقاربة ولا ينتهون من خصام حتى يدخلون بخصام جديد يقف وراءه الغرور والغيرة وشخص ثالث وحانت منه نظرة لوجهه في المرآة فرأى ان الايام تحولت الى خيول زمن تترك اثار سنابكها على طيات وجهه وهاله ان يرى التغضن والاخاديد على محياه وصفحات خده فقرر ان يتخذ قراره الاخير في لحظة كانوا فيها على وئام واحرق كل اثر يدل عليه .
. تستر بالليل والقطار الهابط نحو الجنوب وبعد انتصاف الليل بساعتين توقف القطار في محطة مدينة يعرفها جيدا فاستعاد ذكرياته فيها يوم تحولت الى حوت يخفيه من عيون التي كانت تلاحقه وعاش في حاراتها الشعبية وازقتها قرابة سنتين ولم يغادر الا بعد ان عيونهم كشفت مخباه .
. قرر ان يترك القطار ويكرر تجربته في هذه المدينة مع اختلاف الغرض في الحالين ثم حمل حقيبته وركب احد الباصات المتجهة الى وسط المدينة وفي مكان يعرفه تماما ترجل من الباص وافترش الرصيف منتظرا انجلاء عتمة الليل والقاء نظرة على المدينة ليرسم خطة للتعايش مع وضعه ووضعها الجديد .
. في ليلة اختفاؤه الاولى لم تكن قلقة كثيرا عليه لكن في نهار اليوم الثاني بحث عنه عبر كل الطرق التي كانت تتواصل بها معه فدب الخوف والقلق في اوصالها واعادة البحث مرة اخرى فوجدت في صفحة تواصل اجتماعي خاصة بهما لكنه اهملها منذ زمن وحملت اسما غريبا ( طز للازبري ) رسالة صغيرة جدا مكتوب فيها ( امارس الرحيل لأريحك مني وارتاح من نفسي .. لا تتعبي نفسك بالبحث .. التقيك في حضرة الرب .. وداعا ) .
. تخلى عن ملابسه القديمة واشترى كوفية وعقال و ( دشداشة ) واستعار له اسما قريبا من اسماء سكان المدينة واطلق للحيته العنان واخفى وثائقه الثبوتية ماعدا ( البطاقة الذكية ) التي يحتاجها لتمشية اموره المادية بعيدا واصبح يتردد على المقاهي مثل كهول المنطقة وعقد صداقة مع بعضهم حد تبادله الزيارات مع بعضهم الى بيوتهم وهم الى غرفته الصغيرة المتواضعة والمرتبة بشكل جيد .
. زارت كل ما استطاعت من الاماكن التي كان يعمل بها او يتردد عليها وحضرت تجمعات كان يشارك بها لكنها لم تعثر له على اثر له ولم تسمع من كل معارفهم المشتركين غير جملة ( غيابه امر محير ) مما جعلها تخلد كل ليلة الى مخدعها وتستذكر ايامهم المشتركة بحلوها ومرها..  تقف عند ايام الصفاء فيعتصرها الالم وتخنقها العبرة وتتمنى ان تعود لكن هيهات هيهات وتقف عند ايام الخلاف فتستذكر صبره وتفاؤله وضحكته الحانية وهو يسمعها تقول له بكل ثبات ( مسودن ) وهكذا يمر ليلها حتى يغلبها البكاء ليأتي بعده النعاس .
. اعتاد عليه ابناء المدينة بعدما اثار اعجابهم بقدرته على حفظ الشعر ومرويات الادب وتمييز الغث من السمين وقدرته على التقويم والتفسير حتى اصبح في عداد اصدقائه اساتذة وطلاب كليات وادباء ومتثقفون وكان مايثير استغرابهم اصراره على عدم حضور اي تجمع او منتدى ثقافي او ادبي يقام في المدينة وكانت ضحكته الساخرة ولمعان عيناه الخامدتان محل انتظار عندما يكون بينهم , لكنهم كانوا يقابلون رغبته بالجلوس منفردا باحترام مكتفين بمراقبة دموعه وهي تنحدر من اسفل نظارته الطبية من دون ان يجرا احدهم على سؤاله عنها .
. مرت سبعة سنوات اتعبها الانتظار واقنعها اليأس بضياعه وضياع حبها معه فاستسلمت لاحزانها وانطوت على نفسها وقل زوارها وافتقدتها الاماكن التي كانت ترتادها ليس للبحث عنه فقط وانما لاستذكار ايامهم فيها وذات ليلة ارقت حتى السحر وعندما اغمضت عينيها اطل هو من بوابة الجفن واخبرها انه سيلتقيها خلال الايام القليلة المقبلة وعندما استيقظت اكل قلبها الرعب عليه وساورتها الظنون بانه تعرض الى مكروه لكن تسأل من ؟ وكل المحيطين بها اصبحوا ينعتونها بـ ( المجنونة ) .
. اصابته (نزلة برد ) فحموله لمستشفى المدينة لكن لم يشفى سريعا وبقي في المشفى ايام حتى صارحه طبيبه ذات نهار بان حالته ليست سهلة خصوصا وان الجسم ضعيف وغير قادر على المقاومة لكنه تمنى له الشفاء , وفي اول زيارة بعد كلام الطبيب اختص باقربهم له طالب ادب في العشرينات من العمر واطلعه على وصيته وما يقوم به لو جاء الاجل . لكن صديقه الطالب منحه املا وبدد خوفه ووعده بخروجه القريب وذهابهما معا لزيارتها في بغداد .
. توفي صديقهما المشترك الذي كانا يتندران مع زوجته يوم تجمعهم رحلة بما سيلاقيه زوجها من مقلب يموت فيه وتصبح هي ( زوجة المرحوم ) وقد تبرع لها بـ (جوارب سوداء ) تندرا فطلبت زوجة الصديق المتوفي منها الحضور والذهاب معها للمقبرة . شحذت ما تبقى بها من همة وذهبت مع ابن المتوفي الى بيتهم , واستذكرت المرأتان في السيارة التي تحمل نعش الميت حياتهن الماضية مع الرجلين ثم اخذهن الحديث عن الغائب الذي لم يكلف حتى اقرب الناس له نفسه للبحث عنه مع انه كان لطيفا محبا للجميع .
. وصلت السيارة للمقبرة وانشغل الاخرون في اكمال لوازم الدفن واسندت هي ظهرها الى احد القبور وارخت لدموعها العنان شعرت بهاجس يوخزها ويطلب منها الالتفات للقبر الذي اتكأت عليه فاستغربت لكنها التفت وصرخت عندما لامست عينها شاهدة القبر التي كانت تحمل اسمه وتاريخ موته الذي لم تمضي عليه عشرون يوما فتحلق حولها الاخرون هي تمسك بالشاهدة محاولة الاستفسار منها ولم ينقذها من هذا الحال الا (الدفان) الذي ضحك من سخرية الاقدار وقال سأكمل لكم ما لا تعرفون من القصة .
. اخبرني الذي تكفل بتنفيذ وصيته انه كان يرقد في المستشفى وان الطبيب اخبره بأنه يستطيع ترك المستشفى والذهاب لزيارتها في بغداد بعد سبع سنوات اختفاء ففرح الرجل واخرج صورتها ليخبرها بزيارتها لكن الصورة سقطت من يده الضعيفة بسبب المرض فوقع فوقها ولما أرادوا إنهاضه وجودوه فارق الحياة وهو يحتضنها .     

أحدث المقالات

أحدث المقالات