18 ديسمبر، 2024 11:03 م

زيف الثقافة وأسطرة القداسة

زيف الثقافة وأسطرة القداسة

لم يخلق الإنسان فانيا تماما ولا أبديا لأجل أن يكون حرا في اختياره لمسلكه وبالتالي لمصيره وتحقيق كرامة هذا المصير، وسيكون بوسع هذا الإنسان أن يخلق ذاته لأنه يحمل بذور الحياة الكلية.

“لم نخلقك سماويا ولا أرضيا، لا فانيا ولا أبديا، لأجل أن تكون حرا حسب إرادتك وكرامتك، حتى تكون خالقك وبانيك، لم نمنحك سوى النمو، أما التطور فإنه متوقف على إرادتك الحرة، أنت تحمل في أعماقك بذور الحياة الكلية” (بيكو ديلا ميراندا -من خطبة حول الكرامة الإنسانية).

تنشغل الثقافة الرسمية في معظم بلدان عالمنا الثالث، ويساندها مثقفو السلطة وحواشيها، بموضوع “أسطرة” الشخصيات العامة من حكّام مستبدين ومثقفي حاشية وفنانين ومنحها توصيفات ومزايا ترتفع بها فوق العادي واليومي لجعلها تبدو جديرة بالمواقع التي احتلتها دون أن تكون مؤهلة لها، ويوظف الإعلام العربي غالبا أعمال ونصوص مثقفي السلطة لتأطير الصورة النمطية المتعالية لتلك الشخصيات الخاوية، وغالبا ما تنسج قصص أقرب إلى الخرافة عن بطولات ملفقة يجري تداولها عن طريق الإعلام الموجه، وقد تستحدث لتلك الشخصيات أشجار نسب تمتد إلى سلالات لها مكانتها المبجلة في الذاكرة الجمعية، فلا يمكن حينها لأيّ من الناس أن يقدم على انتقاد تلك الشخصيات التي امتلكت نوعا من قداسة اختلقها إعلام السلطة وتبناها المزاج الشعبوي.

تشير العبارات الافتتاحية لبيكو ديلا ميراندا إلى دحض هذه الادعاءات وإنكارها على البشرية، فالقول “لم نخلقك سماويا ولا أرضيا” فيه تأكيد على نفي القداسة المتوهّمة وتجريد الكائن البشري من ادعاءاته الباطلة حول كونه ينتسب إلى السماء، في الوقت ذاته تنفي عنه العبارة كينونته الأرضية الواطئة وتحفزه على أن يختار صيرورته بذاته وهو حرّ من التوصيفات المسبقة، وفي السياق ذاته لم يخلق الإنسان فانيا تماما ولا أبديا لأجل أن يكون حرا في اختياره لمسلكه وبالتالي لمصيره وتحقيق كرامة هذا المصير؛ وسيكون بوسع هذا الإنسان أن يخلق ذاته لأنه يحمل بذور الحياة الكلية وأن يبني كيانه على أساس من حرية الاختيار والكرامة دون الاستناد إلى امتداد سماوي أو الاتكاء على سلطة أرضية، مكتفيا بقدرته البناءة وإمكانية النمو والازدهار الروحي والفكري إذا شاء أن يواصل النموّ لاكتمال وجوده، ومتى ما نجحت عملية النمو الذاتي الواعي دون استناد إلى خرافات وأساطير وانتماءات وهمية سيكون بوسعه إنجاز عملية التطور والتقدم في مساره الإنساني، وسوف يتطور على نحو متواتر دونما استناد على متكآته الميتافيزيقية والاجتماعية أو أساطير السياسية التي أوهموه بأنها ستجعله متشحا بالحصانة والسمو.

تعمل الثقافة الرسمية غالبا وتسخر معظم إمكانياتها -وقد توظف بحوثا ملفّقة في مجال الدراسات الأكاديمية- من أجل منح نفحات من بطولة خارقة أو مواهب إبداعية أو تلميحات قدسية لشخصيات دينية أو سياسية أو اجتماعية تحتل مواقع في السلطة، ويعمل في السياق ذاته فريق من المثقفين العاملين في الإعلام والصحافة وبعض منتسبي المؤسسات الأكاديمية على تلفيق تلك البطولات ومنحها أبعادا موثقة، كأن تفرض عناوين رسائل ماجستير أو أطاريح دكتوراه عن شخصية سياسية أو برلمانية أو دينية، وتدرس أعمالها على اعتبار أنها منجزات فذة، فيقوم طلبة الدراسات العليا بتلفيق رسالة عن سياسي فاشل يقرض الشعر وينصّبونه كظاهرة ثقافية أو تكتب أطروحة دكتوراه عن سياسي فاسد ومختلس تنسب إليه أخلاقيات الحكماء وفضائل الزهاد، حصل هذا ويحصل في جامعات عراقية عديدة وظهرت رسائل وأطاريح زيفت وجه العلم والثقافة ونسبت لبعض أهل السلطة مواهب وإمكانات لا يملكونها ومنحت آخرين شهادات دكتوراه كتبها محترفون لقاء ثمن لتترسخ ظاهرة الزيف العلمي والثقافي.

نقلا عن العرب