ان مايحدث في العراق منذ أيام وبالتحديد منذ 31/تموز الماضي من حراك جماهيري هو أقرب ما يكون إلى ثورة سلمية بيضاء بكل المعايير، ثورة شعب أعزل مغلوب على أمره خرج من عبائة سلطة دكتاتورية واستبدادية حكمته طوال أكثر من ثلاثة عقود من السنين، ليسقط في قبضة سلطة الاحتلال الأمريكي وما انتجته من حكومات تبعية هزيلة مجردة من كل مقومات السيادة والاستقلال منذ نيسان 2003 وحتى اليوم، والملفت للنظر في هذا الحراك الجماهيري هو بداية سقوط سلطة الأحزاب الإسلامية الشيعية العراقية وتلاشي نفوذها ومشاريعها الوهمية التي فرضتها وكبلت بها رقاب وعقول الملايين من العراقيين، من خلال إشاعة روح المظلومية لدى شريحة كبيرة من العراقيين والتهديد المستمر من ان البديل لمشاريعها الدينية السلطوية هو سلطة البعث وصدام، رابطةً كل ذلك بما توفره المناسبات الدينية الكثيرة من غطاء شرعي وخصوصا لدى المكون الشيعي وبما يرافق تلك المناسبات من طقوس هي في أغلبها لإشاعة الخوف وعقدة المظلومية التي عانى منها هذا المكون لعقود وقرون من السنين.
فالذي يسمع الهتافات الهادرة في ساحة التحرير ويقرأ ماكتب من لافتات ومنشورات يتلمس مدى الغضب الذي وصلت إليه هذه الجماهير من أحزاب السلطة وقيادتها التي كانت خطوط حمراء حتى وقت قريب، والتي انتفعت على حساب هذه الجماهير وبشكل غير طبيعي واستغلت الثروات الطائلة من جراء تهريب النفط والمشاريع الوهمية التي رصدت لها مليارات الدولارات بالاضافة الى اقتسام ميزانية الدولة الهائلة والتي تجاوزت ترليونات الدولارات سواءا في مجالس المحافظات التي تتقاسمها تلك الاحزاب أو من خلال الامتيازات التي منحتها لنفسها من خلال التشريعات التي سنّتها تحت قبة البرلمان لمنتسبيها وكوادرها في الوزرات والبرلمان والمجالس البلدية.
ان أحداث العراق المتسارعة والتطورات التي حدثت خلال الأيام والساعات الماضية تبدو للمتابع وكأن البلاد تسير في سباق مع الزمن، فمع أول جمعة احتجاجات غاضبة في 31/تموز الماضي والتي اقتصرت المطالبات فيها على توفير الخدمات وبالأخص الطاقة الكهربائية مع اشتداد درجات الحرارة وشحة في انتاج منظومات الطاقة ومحاسبة المسؤولين عنها والتي قابلها رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي بما يشبه التنصل الكامل عن المسؤولية حين ألقى باللائمة على الأحزاب والكتل السياسية المنضوية في تشكيل الحكومة، والتي قال عنها بأنها تعرقل أي محاولة إصلاحية يقوم بها، ولم ينتهي الأسبوع إلا وجاءت الكلمة الفصل من المرجعية الدينية متمثلة بالمرجع الأعلى السيد السستاني والتي تعتبر أعلى سلطة دينية لشيعة العراق وكلمتها ذات شأن كبير عند الأحزاب العراقية وخصوصا الشيعية منها صاحبة القرار السياسي في الدولة العراقية منذ 2003 حين حثته وبطريقة مباشرة وحازمة على اتباع خطوات أكثر جدية في معالجة الأوضاع المتردية وإيقاف عجلة الفساد والضرب بيد من حديد على الفاسدين وتشخيصهم ليعرفهم الشعب العراقي، وبعد يومين شرع السيد العبادي باتخاذ حزمة قرارات البعض منها كان مباشراً ومشخصاً كقرار إقالة نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الستة، والذين كان بينهم رؤساء وزراء سابقين كنوري المالكي وأياد علاوي. ورغم استحسان الشارع العراقي لحزمة القرارات الأخيرة التي اتخذها رئيس الوزراء إلا أن الجماهير الغاضبة التي وجدت في ساحة التحرير وتحت نصب الحرية ملاذها الأخير لتنطلق حناجرها بصيحات الغضب والاستنكار والاستهجان لما تقوم به الطبقة السياسية وما قامت به خلا السنوات الماضية من نهب منظم لثروات العراق، مازالت هذه الجماهير تنتظر الكثير من
السيد حيدر العبادي وعليه أن يكون أكثر حزما وقوة في اصدار حزمة أخرى من القرارات تعيد ثقة الناس بمؤسسة الحكم وتوقف عجلة انهيار الدولة العراقية التي أخذت تتلاشى بين ضربات الإرهاب واستفحال أمر الفاسدين، في خضم شيوع الفساد وضعف حضورها في إدارة أهم الملفات الخطيرة في الأمن والدفاع والخدمات.
إن فرصة رئيس الوزراء العبادي كبيرة مع وجود هذا الدعم الواسع والتفويض التي حضيّ به من لدن المرجعية الدينية والتي تعتبر من السلطات المعتبرة في وجدان شريحة واسعة من ابناء الشعب العراقي بشيعته وسنته وعربه وأكراده لما لها من حضور تأريخي محترم على كافة الأصعدة في مجالات التهدئة وتذليل العقبات ومحاولاتها الحثيثة في التقريب بين وجهات نظر الكتل والاحزاب المتجاذبة في السلطة، وكذلك دعم الجماهير المحتجة التي جعلته خارج منظومة الفاسدين وفوضته بطريقة غير مباشرة أمر إدارة البلاد، لكن ما اتخذ من قرارات لم يكن بمستوى التمنيات رغم ان السيد العبادي قد بدأ مشروعة الإصلاحي الخجول “بضربة معلم” كما يقولون حيث بدأ بأعلى سلطة هرمية للدولة وجردها من كل ما اكتسبته من مزايا وحقوق خلال السنوات الماضية رغم عدم دستورية وشرعية ما حصلت عليه من تلك الامتيازات في السكن والمخصصات المادية والحماية والميزانيات المفتوح والتي تنفق في غلبها على ابواب ليست لها علاقة بالدولة.
ويبدو ان السيد العبادي مازال يستشعر الخطر الذي يحيط بمشروعه الإصلاحي من قبل الكتل والأحزاب المتحالفة معه والتي تتحسس هذا الخطر فيما لو أن السيد العبادي استمر في مشروعه هذا وأطاح بكل رموز الفساد التي تمثلها في مؤسسة الحكم وان يتحول في مستقبل قريب الى دكتاتور آخر لايختلف عن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي المتهم بالدكتاتورية.
لذلك اتسمت قرارته بالتأني وجس النبض لأقرب شركائه في مؤسسة الحكم، حين جعل من اغلب القرارات عائمة ومجردة من التفاصيل كقرار ترشيق الدولة ودمج الوزارات وتشكيل لجنة “من أين لك هذا” وكذلك تقليص افراد الحمايات لكل المسؤلين بالدولة، ويبقى القرار الأهم وهو تسمية الفاسدين وتجريدهم من المناصب التي يحتمون بها وتقديمهم الى القضاء العادل، وهو قرار في غاية الصعوبة اذا اخذنا بعين الاعتبار الأسماء المرشحة لهكذا قضية والتي كانت تطالب بها الجماهير على مدى اسبوعين في ساحات الاحتجاج، لكن يبدو أن عجلة التغيير قد بدأت ولن يكون هناك من يوقفها مع تداعي هيبة الأحزاب وقياداتها وقبولها للقرارات الأخيرة ولو حتى بطريقة ظاهرية وهذا لوحده يمنح السيد رئيس الوزراء دفعة أخرى مضافة في مشروعه الإصلاحي وأن يجعل من هذا الحراك الجماهيري الذي يقوده ثلة من الشباب المثقفين في مجالات الإعلام والفن والأدب ثورة عراقية بيضاء توقف نزيف الدم والفساد.