18 ديسمبر، 2024 8:49 م

مثلما صدم المثقفون العرب أمام تفكك الدولة، يبدو أن مثقفي الغرب يقفون منذهلين أمام تسارع صعود التيارات الشعبوية.

العداء للدولة ليس بجديد. تاريخ الدول مرتبط بتاريخ التمرد عليها. ثمة ثقافة باطنية واسعة الانتشار بهذا الشأن. نظريا، العداء يكون ضد الدولة التي لا تراعي مواطنيها أو ترعى رعاياها. الظلم يولد التمرد ويعطيه المبرر. ولكن هناك ما يكفي من الشواهد التاريخية التي تؤكد أن الظلم ليس السبب الوحيد دائما.

الدوافع الأيديولوجية كانت من أسباب التمرد. الأديان، بعمومها، كانت تمردا أيديولوجيا على حال سائدة. من قلب الأديان أيضا جاءت حركات متمردة كثيرة على الدول التي أسستها الأديان. الحق في التفسير أو الرأي أو كسر الاحتكار الديني كان دافعا قويا. التمرد باسم الدين على الدولة التي أقيمت باسم نفس الدين هو واقع حال مستمر منذ قرون. الفكر ابن الفكر الأصلي يقف ضد الدولة التي أساسها نفس هذا الفكر. سال دم كثير في حروب الفكر المتشابه والمتصارع.

الأيديولوجيا المعادية للأديان أخذت حصتها في مواجهة الدولة التي أقيمت باسم الدين. فكرة اليسار، بتنويعاتها المختلفة، قد تكون الأشهر في هذا الصدد. الفكر المادي بنسخه الماركسية والشيوعية كان منطلقا لتحدي الدول. الحركات الشيوعية لم تتردد في تدمير الدول القائمة، ملكية أو جمهورية، وإحلال البديل الشيوعي لها. سال دم كثير تحت هذه الرايات.

الفكر اليساري المعتدل ساهم أيضا في تحدي الدولة، ولكن لتقويمها وليس لتدميرها. العدالة الاجتماعية كانت فكرة اليسار في الغرب لمواجهة السيطرة المطلقة للكنيسة والدولة معا. الغرب المتقدم الذي نراه اليوم هو نتاج لحالة عداء مخفّفة ومتدرّجة بين اليسار المعتدل وبنية الدولة القائمة. هذا لم يمنع من صعود تيارات فاشية حاربت فكرة اليسار المعتدل، ولكنها وجدت نفسها في صدام مع الدول القائمة التي أدركت أهمية التعديلات الاجتماعية التي أدخلت على أنظمة الحكم والفكر والتشريع. الحرب العالمية الثانية من نتائج هذا الصدام، ولكنها ليست الحرب الوحيدة.

اليمين بدوره كان معاديا للدولة. النموذج الأميركي هو تجسيد لهذا العداء. بدأ ضد السيطرة البريطانية وتحول إلى نزعة مترسخة في عقل الأميركي. الدولة الأفضل في نظر الأميركي هي الدولة الأخف وطأة والأقل تدخلا. حرب الاستقلال والحرب الأهلية الأميركية كانتا نتيجة لرسوخ تلك النزعة.

صمود الدولة، مع كل التغيّرات التي حدثت عبر التاريخ، كان مذهلا. مَن يتمرد على الدولة كان يعيد تأسيسها من جديد ولكن على صورته. ثقافة حضور الدولة كانت الأقوى.

لكننا نشهد اليوم شيئا مختلفا جذريا.

نشهد انهيار المنظومة الاجتماعية في كل بلد عربي
انهيار منظومة الدولة في أكثر من بلد عربي كان نتيجة لتراكمات كثيرة. الدولة في بعض الدول العربية الآن تبدو مقاطعة من مقاطعات عديدة، أغلبها متمرد. رئيس الدولة يبدو أشبه بأمير حرب له نصيبه من حصة ما تبقى من الدولة الوطنية. زعماء قبليون ودينيون وسياسيون صار لديهم ما يكفي من الولاءات لتحدي فكرة الدولة.

هم أنفسهم يعانون من تشظّي الولاءات أيضا. العداء للدولة أنتج حالة هلامية خطيرة تهدد كل ما تم إنجازه على مدى قرون. الحروب التي أدت إلى الوضع الراهن أنتجت حروبا أخرى. هل يستطيع أحد الجزم بما سيؤول إليه حاله بعد سنوات قليلة، وهل سيبقى عراقيا أو سوريا أو يمنيا أو ليبيا؟

الغرب أنتج بدوره نسخته من التفكك. اليمين الشعبوي قوة صاعدة. الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يخفي عداءه لمنظومة الدولة التي يرأسها. تيارات اليمين الشعبوي الآن تتحرك بموازاة مفهوم الدولة الحديثة وتؤسس لقواعدها الخاصة بعيدا عن فكرة الأحزاب التقليدية والتقاسم الديمقراطي للسلطات. مع افتقاد الإعلام التقليدي للسيطرة على توجيه الأفكار، ومع صعود تأثير الوسائط الإلكترونية البديلة، ومع تردي قدرة الدولة على توفير المال لضبط ولاءات المجتمعات بتوفير التعليم والصحة والأمن والرعاية الاجتماعية، تبدو الشعبوية هي القوة الغالبة في المدى المنظور.

العامة تمرّدوا بطريقتهم وصاروا يوجهون السياسة بعيدا عن المنهج التقليدي. ترامب مشهد من أول المشاهد للتغيّرات الكبرى القادمة. أوروبا ستلحق بالولايات المتحدة قريبا. السياسيون الشعبويون قادمون، والتقسيمات الجغرافية سيعاد النظر فيها بأسرع مما يعتقد كثيرون. دعوات استقلال أسكتلندا وأيرلندا الشمالية وقرار الخروج من أوروبا (بريكست) في بريطانيا هي علامات على طريق الشعبوية.

مثلما صدم المثقفون العرب أمام تفكك الدولة، يبدو أن مثقفي الغرب يقفون منذهلين أمام تسارع صعود التيارات الشعبوية. مرة أخرى يثبت المثقفون أنهم مستسلمون لواقع ثابت وعاجزون عن قراءة التغيّرات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي وصلت مع تقدم التكنولوجيا. الثقافة، التي يفترض أنها القوة الطليعية في قيادة المجتمعات، تبدو حائرة حتى في تفسير حركة هذه المجتمعات.
نقلا عن العرب