كما كانت التوقعات منذ أن أعلنت حكومة العبادي إجراءاتها التقشفية، بأن هذه السياسة، ستكون لها تداعيات خطيرة على الأرض، حيثُ لم تمر سوى أشهر قليلة على اعتماد سياسة تقشف قاسية نوعاً ما، حتى انفجر الغضب الشعبي عبر تظاهرات مطلبية عامة اجتاحت المُدن التي ما تزال تحت سيطرة حكومة بغداد الاتحادية.
فقد وجد المواطن العراقي، مجبراً على دفع فاتورة باهظة من قوته ولقمة عيشه، بسبب سياسات فاشلة اتبعتها حكومات ما بعد 2003،وفساد تغول كثيراً حتى أصبح القوة الأكثر نفوذاً وتأثيراً في الواقع العراقي، حيث استطاع غول الفساد ترويض القوى السياسية بمجملها للاشتراك بفعاليته، عبر دوائر اقتصادية استحدثت داخل بنية هذه الأحزاب التي تعتقد أنها غير قادرة على الاستمرار في الحياة السياسية، ما لم تمتلك التأثير والنفوذ الاقتصادي المتصاعد، ولذا استثمرت نفوذها السياسي لتحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة، عبر عمليات فساد كبرى، منها غسل الأموال، وتهريبها، وتفكيك المعامل الصناعية الكبرى وبيعها، والتحول لوكلاء وسماسرة في بيع المقاولات الكبيرة، والاستيلاء على أموال الدولة عبر الاحتيال القانوني، وأخيراً النهب المباشر للمال العام من خلال الاستيلاء على مخصصات وزارات ومحافظات برمتها، وصولاً الى نهب ما يقارب المائة مليار دولار أميركي في العام 2014، بسبب عدم وجود موازنة عامة للبلاد، وسقوط مدن عدة على يد تنظيم داعش الإرهابي.
المواطن الذي كانت هذه القوى تشتري رضاه عن سرقاتها، عبر عملية إفساد واسعة من خلال خلق مئات ألاف الوظائف الوهمية، ومثلها من العقود، فضلاً عن تحويل الدولة إلى مجرد صندوق رعاية اجتماعية، توزع المنح والعطايا التي كان ارتفاع أسعار البترول سبباً في تدفقها الى جيب المواطن، بنسب متفاوتة حسب قدرته وقربه وولائه من هذه القوى السياسية، وجد نفسه أمام الأمر الواقع، بعد ان انفجرت فقاعة الموازنات الانفجارية، و هبوط أسعار النفط الى مستويات غير معهودة، حيث وجد نفسه مضطراً لدفع ثمن ذلك الفساد، فيما لم تبادر هذه النخبة الفاسدة إلى تحمل جزء من مسؤولياتها الأخلاقية – إن بقيت – أو في الأقل غريزتها في الحفاظ على سلطتها، بل بادرت إلى دعم تطبيق سياسات تقشفية، كان ضحيتها مئات آلاف المتعاقدين مع الدولة الذين تخلت الدولة عن صمتهم على فسادها مجبرةً هذه المرة، كما ان المال الذي كان ينهب في السابق، كان يُدور داخل الفعالية الاقتصادية العراقية بنحو أو بآخر مما يخلق مناخ عمل حتى لو كان استهلاكياً فحسب، توقف فجأة بسبب شحة الموارد المالية، واستمرار تحويل القوى السياسية الأموال الواردة للعراق بالاتجاه المعاكس عبر عمليات فساد غير مسبوقة في مزاد البنك المركزي الذي تقف وراءه مصارف أهلية تديرها أحزاب متغانمة على السلطة .
كل هذه العوامل،مضافاً إليها اتساع ظاهرة الفقر نتيجة لغياب التنمية، وعجز القطاع العام على احتواء الأعداد المتزايدة من القادرين على العمل، وغياب القطاع الخاص، بل وتحوله الى مجرد حديقة خلفية لعمليات الفساد الاقتصادي السياسي، كل هذه العوامل مجتمعةً، فضلاً عن احتقان شديد من استمرار تردي الخدمات، واستمرار الحرب التي صار العراقيون يدفعون ثمنها باهظاً، بعد فشل المؤسسة العسكرية التي استهلكت من موازنات العراق الشيء الكثير في الدفاع
عن البلاد ومدنها، نتيجة لاختراقها وفساد القائمين عليها في الاغلب، كل هذه العوامل ادت الى انفجار غير مسبوق في الشارع الذي الجأه الفقر والعوز الى الاحتجاج عبر تظاهرات شعبية بدأت تتسع يوماً بعد يوم.
ان قراءة مشهد التظاهرات العراقية اليوم، يحتاج الى معرفة كل خلفياتها السابقة، وأيضا تحليل تراكم الغضب المتزايد، ونفاد الصبر لدى الجماهير التي وصلت لقناعة، واضحة وقاطعة بصعوبة الوصول مع هذه النخبة لحلول، بعد ان استنفدت هذه النخبة بدورها كل آفاق الوصول لدولة مواطنة قادرة على التنفس الطبيعي، والتوقف عن جرعات الأوكسجين الذي تضخه الطائفية تارةً، والقومية تارةً أخرى، والصراع الحزبي الداخلي حين تعجز الصيغ الكبرى على بلورة ما ترتئيه هذه القوى للاستمرار في الاستحواذ والتحكم.
ان اختناق الصيغة الحالية للعملية السياسية، ووصولها لمرحلة إفراغ المحتوى، بل والانقلاب على كل الثوابت يشي بأن تطورات دراماتيكية مقبلة في البلاد، خصوصاً وان واقع الحرب مع داعش، افرز وما يزال يفرز الكثير من الظواهر التي سيكون لها التأثير الكبير على واقع المشهد السياسي في البلاد، لا سيما الحشد الشعبي الذي من المؤمل ان يلعب دوراً سياسياً اكبر خلال المرحلة المقبلة.
لذا فأن من يراقب الإصلاحات التي بدأها العبادي مجبراً ومدفوعاً بضغط العجز المالي المتسارع، وكذلك الاحتجاج الشعبي، سيلحظ أنها إصلاحات اقتصادية في الجوهر، بل إن إلغاء مناصب ووظائف عليا في الدولة أوجدت للاسترضاء السياسي، يكشف بحقيقة لا تقبل النقاش على ان هذه القوى لا تؤمن بدولة حقيقية، قدر إيمانها بالوصول لمواقع التسلط لديمومة حصتها المالية من إيرادات البلاد.
ان استمرار العبادي في الإصلاحات ليس خياراً، قدر ما هو واجب عليه أداؤه لإنقاذ او في الأقل إيقاف التداعي والانهيار الذي قد يصل بالبلاد إلى حالة من الإفلاس الكامل، الذي قد يؤدي بدوره الى ثورة جياع لن تبقي ولن تذر ان حدثت .