قراءة نقدية في قصيدة الشاعر الجزائري الدكتور خليفه احميم
(شبحي يقتات مني)
مقدمة
لاول مرة تصدمني الغصة ويجتاحني الالم حين اقرا نصا يصف الفقر كهيلمان تسبح فيه الكلمات والحروف باحواض يابسة عطشى وهي تلبس اغوار السواد ووميض الالم الجارف الذي ياخذ بيدك نحو عالم كفيف من الشعور المظلم وانت تتصفح الكلمات والحروف ولا تجد فيها مجالا من رطوبة او موطئ اصبع من فرح او وميض سعادة.. اسلوب حي مؤلم مبكي يجعل جلدك مقشعرا مرة و زاحفا اخرى…قرات كثيرا ولم يصادفني مرة اسلوب مزدحم كاسلوب هذا الشاعر في وصف البؤس وتراه امام عينيك وهو يتعذب ويقتلي على نار هادئة ، تدرك حينها انها الشاعرية المفرطة في احساس هذا الشاعر…فهو يعيش نصوصه لا يكتبها… فقد امطرنا بوابل من الكلمات البائسة وكأنه وجه نحونا رشاشا من طلاء اسود ليطلي به احساسنا بالكرب قسرا ويجعلنا معلقين بين الانبهار وذرف الدموع….وايهما نختار…!
القييم الجمالية في النص
تظن حين تقرأ القصيدة بعمق ان هذا الشاعر قد عاش الكلمات فعلا او انها شدت متسلسلة برأس قلمه ولسانه كمسبحة صوفية متجانسة الخرز وهو يتأرجح بين نفسه وظلها البائس…..ينتمي نصه الفلسفي الى المدرسة الواقعية تحت نظرية الادب للمجتمع مع صبغة خفيفة من الرمزية تظهر مرة وتختفي تارة تحت ظلال المباشرة رغم انه ياتي الينا في كل مرة من وراء السرد الشعري يوهمنا بسريالية الحدث فيخلط علينا الامور ثم يكتب باسلوب شيق …..انه شاعر موهوب واعتقد انه لا يدرك موهبته…..يستهل لوحة الالم :
مَرَّتْ كَأَنَّهَا حَفْنَةٌ مِن أَشْلَائِهَا.. تُبَاهِي بَقَايَاهَا
لاَ حَفْلَةٌ هُنَا وَلاَ نَوْمُ طِفْلَـة
أُمٌّ تَرتَادُ رَغِيفَ الأَمْسِ ..تَحْضُنُ مُنَـاهَا …
تُقَبِّلُ رِيحَ أَنَينِهَا ..تَرُشُّ البَلَاء
رُزَمُ الفَاقَةِ تُوقِدُ لَهِيبَ مُحَيَّاهَا
تُوقِظُ رُقَعَ رِدَائِهَا الذِي أَحْيَاهَا
تَختَزِلُ تَـجَــاعِيدَ الخَـــلاَء
هُنَـاكَ فِي رُكْنِ الحَفَــاء
يمرر الكلمات العطشى فوق انف المتلقي وكأنها نسائم عليلة تنعش انفه و بين طياتها حصى وتدمي عينيه وكأنه اراد منه ان يضحك وهو يبكي في الوقت نفسه …هو نفسه مبعثرة اشلاءا….. و يفرض علينا جدلية وسؤال كبير تكمن في البرادوكس ، حفنة من اشلاء يريد هنا ان يقول ان الجوع اودى بها ان تكون حفنة من اشلاء تباهي ما بقي منه من روح….وكان الشاعر يريد يصعب الامر علينا وعلى نفسه حين جعل رغيف الخبز بعيدا عن متناول يد نفسه الغارقة في البؤس الى اذنيها….. يكاد ان يكون املا او نجما علق في السماء…هي ام تحتضن بلاء فوق بلائها وجوع طفلة فوق جوعها ويا ليت الرغيف لا يزال حارا فهو رغيف الامس قد بات ويبس…. يكاد الشاعر ان يصب جام غضبه عليها ويلجم حصانه حين يدلق رصاصا حاميا من فقر ومسكنة وينزع كل اثواب الانسانية عنها حتى تصبح عارية تماما حتى من جلدها …هي كيان اسمه البؤس يسير على قدمين لو استطاع ، ، من ثقل الجوع والالم…….يا له من شاعر قاس….
تَمْكُثُ بَرَاءَةٌ تَغْتَـرِفُ الصَّبْــر
دُمْيَتُهَا وَقْـدَةُ حَـرٍّ مُمَـزَّق
غُرْفَتُهَا جِدَارُ أَلْوَاحٍ وَ دُسُر
يَسْتَنِدُ بِرَثَّةِ ظَهْرهِ إلَى بَقَايَا الحَجَر
إِلَى أَكْوَامِ الحُفَـر ..
إِلَى يَبَسِ الشَّجَــر..
نَعْلُهَا النِّصْفِيُّ جِلْدٌ مُفَتَّق
فُتَاتُ قَرْعِهَا خَطْوٌ مُشَقَّق
مَالِي وَ نَصِيبِي مِنَ الحَلْوَى ؟ تَأَوَّهَت المَكْلُومَة
لَا مَأَوَى يُشْعِرُنِي بِالدِّفْءِ وَلَا مَنْ يَمْنَحُنِي بَصِيصَ أَمَـل
شَبَحِي يَقْتَاتُ مِنِّي أَزْرَارِي المَعْدُومَة
يهجم عليها مرة اخرى ويدميها بؤسا بعد ان عراها من جميع اثواب الانسانية المهترئة ليجعلها براءة بيضاء ينث منها كل شيء الا الصبر يفيض امامها فتغترف منه لتطفيء شيئا من الظمأ المعكوس فوق طفلتها حرا ، تلعب بهذا الالم والبؤس دمية…وهذا اعمق تعبير قرأته في وصف البؤس…..ويعود هذا العبقري ويغوص في اصول المعنى ويبهرنا بقاموسه العجيب المخبأ برأس قلمه حين يخيط الكلمات في الاداء الشعري الرمزي ويسافر عميقا نحو جذور المعاني كغواص يتصيد اللؤلؤ في غمار بحر مليْ بالمحار…يأصل الكلمات بعلمية الاختصاص، فهو يعمل طبيبا، ويجعل بؤسها غرفا من شجر… ويجر الشاعر اختصاصه العلمي فيلتجأ الى استخدام الدلالات الحيوية في قصيدته شجر وحفر….و…و… ولا يسلم نعلها من هذا التاصيل و سكين قلمه الحادة فينهال عليه طعنا وتجريحا….. يذكرني هذا الشاعر في تلك الجزئية بالشاعر الانكليزي (بيتر موريل وقصيدته الرائعة كيمياء الربيع …فقد انعكس عمله الكيميائي في شعره) .يهدأ الشاعر قليلا ويشفق عليها هذه المرة بأن يطالب لها بحصة من الحلوى…اهو حلم…؟ اظن انه ذرف دمعة ساخنة هنا حين دخل الشعور طيات نفسه الممزقة وحن عليها قليلا ربما بكى عن عجز من بحث وراء بصيص من الامل متعلقا بين نفسه و شبحها الذي بدأ ينهش في لحمه…..فيعود يبحث من جديد فيقول:
يُؤنِسُ طِفْلَتِي .. يُحْرِقُ دَمْعَتِي .. يُجْهِضُ فَرْحَتِي ..
يَنتَظِرُنِي جَسَدًا مُتَلَعْثِمًا عِنْدَ آخِرِ أَجَــل
بَنُو البَشَرِ مَا عَادَ نَحِيبُ حَمَامَاتِي يُؤَثِّـثُـهُم
مَا زَالُوا يَتَمَرّغُونَ بِوَادِي اللَّامُبَالَاةِ والبَلَل
بَلَغَتْ بِي حِبَالُ الغُصَّةِ مُنتَهَاهَا
لاَ أَعْرِفُ لِلنَّسَائِمِ عَبِيرَهَا وَ لَا شَذَاهَا
لاَ أَدْرِي أيُّ قُفْلٍ يُدَثِّـرُهُم ؟
أَيُّ صُبْحٍ يُزيِلُ غَفْوَتَهُم ؟
اظن ان الشاعر الكبير خليفة ،هنا قد هدأت نقمته على نفسه قليلا وبدأ يبحث عن الاشياء التي حرمت منه طفلة نفسه المعذبة من معاني الحياة الكريمة ولم يبقى شيئا يؤنسها سوى الدمع الحارق والاشياء المدمرة التي تجهض الفرح حتى صار جسدها ممزقا وأتكأ على حافات الفناء…ارى الشاعر يلتفت بعنف وحنق نحو المجتمع ليصب اوار غضبه و لومه الحارق فوق رمة هذا المجتمع اللا مبالي بما يحث للفقراء والبؤساء حين فرغت كل الجعب المكتضة بالصبر وبلغت الغصة عنده نهاياتها ….فهو شاعر بارع في السرد الشعري المتسلسل ويصرخ في مسامعهم وكأنهم قد اقفلوا في زق من خمر فخدروا ولن يستيقظوا من نومهم العميق حتى بصراخه العميق مسامعهم الصماء الخدرة….يا له من شاعر بارع الكلمات بالمعنى والحدث والسحر والاحساس بخيط من ذهب و بشكل اسطوري رهيب لا يجاريه احد………
الجُوعُ يَحْكِي تَفَاصِيلَ جُثَّتِهِ .. مِقْصَلَةً يَقْتَرِف
وَ العَرَاءُ يُدَنْدِنُ تَعَارِيجَ حُبْكَتِه ..مَخَاضًا يَحْتَرِف
يَـــا أَنْتُم .. هَلْ رَأَيْتُم ؟
شَمَّـعْتُمْ فِي وَجْهِهَا كُلَّ بَصِيص
بِشَكْلٍ لاَ يُتِيحُ النّظَر.. وَلَا جَبْرَ الضَّرَر
وَلَوْ إطْلاَلَةٌ خَاطِفَةٌ عَلَى أمَلِ الْخَلاَص
فَهَلْ مِنْ مَحِيصٍ .. إذَا الْخَطْبُ جَاء؟
كَيْفَ لِخُطُوَاتِ أَرْمَلَةٍ تَتَبَعْثَر
كَيْفَ لِفُؤادِ طِفْلَةٍ أَنْ يَتَكَسَّر ؟
أَعَلِمْتُمْ .. كَمْ لِلْحِرْمَانِ الضَّرِيرِ مِن حَبَّةِ رَصَاص؟
يَا أَنْتُم .. هَلْ تَذَوَّقْتُم رَثَّةَ كِسَاء؟
أَحْشَاءٌ تُقْرَع .. دُمُوعٌ تُصْفَع ..وَ مَوْتٌ يُصْرَع
رَبِّ أَنْتَ المُرْتَجَى.. أَنْتَ الرَّحْمَانُ يَوْمَ القِصَاص !
وتشتد عصبية الشاعر حين يكشف عن سر هذا المارد الكبير والشبح النهم ،الجوع الذي بدأ يقتات من جسد الشاعر …في تلك المنطقة بالذات ارخى الشاعر الحبل و فتح الشاعر قبضته السريالية وناول الكرة نحو المتلقي وافصح قليلا عن مفتاح قصيدته بعد ان كشف سر هذا العملاق الكبير الذي اكتسح دولا ومزق قارات من هذا العالم اللامبالي بقوله جثة الشاعر هي جثة هذا العملاق الذي بدأ يتحاكى عنها ويشهد المجتمع على هذا المارد وجرائمه البشعة ويلومهم على صمتهم وغفلتهم ومساعدتهم هذا المارد النهم وعزفهم عن مساندة ضحاياه من الفقراء والمساكين…بدأ يفصل تقصيرهم بذكر الجرائم المقترفة بحق الارامل حين خطف المارد ازواجهن والاطفال حين سرق اللقمة من افواههم وكمية الحرمان التي تركها الجوع في جسد هذا العالم الكسيح واسهب بتذكير هذا المجتمع بالجوع الذي ينخر ولا يزال وسيبقى ، في جسد هذا العالم الكسيح …دأب الشاعر ايضا يلوم هذا العالم الضرير على العري وكمية الالم التي سببها مع الجوع في احشاء الفقراء وكمية الدموع التي ذرفت من نوم بلا عشاء …اراه امامي وهو يرفع يديه الى السماء ليشكو الى الله ويدعو الى القصاص من الجوع واسبابه……
نص كبير لشاعر شاب كبير….اتعبني تحليله وامتعني في نفس الوقت فهو تحد سافر من شاعر مقتدر لقدرة ناقد قد اكون وفقت……اعتذاري الكبير لهذا الشاعر الكبير الاستاذ الشاعر خليفة احميم…ربما استطعت منه ومن سبر اغوار نصه…عذرا………
بقلمِ : خليفة احميم
النص الاصلي للشاعر الجزائري الدكتور خليفة احميم
شَبَحِي يَقْتَاتُ مِنِّي *
مَرَّتْ كَأَنَّهَا حَفْنَةٌ مِن أَشْلَائِهَا.. تُبَاهِي بَقَايَاهَا
لاَ حَفْلَةٌ هُنَا وَلاَ نَوْمُ طِفْلَـة
أُمٌّ تَرتَادُ رَغِيفَ الأَمْسِ ..تَحْضُنُ مُنَـاهَا …
تُقَبِّلُ رِيحَ أَنَينِهَا ..تَرُشُّ البَلَاء
رُزَمُ الفَاقَةِ تُوقِدُ لَهِيبَ مُحَيَّاهَا
تُوقِظُ رُقَعَ رِدَائِهَا الذِي أَحْيَاهَا
تَختَزِلُ تَـجَــاعِيدَ الخَـــلاَء
هُنَـاكَ فِي رُكْنِ الحَفَــاء
تَمْكُثُ بَرَاءَةٌ تَغْتَـرِفُ الصَّبْــر
دُمْيَتُهَا وَقْـدَةُ حَـرٍّ مُمَـزَّق
غُرْفَتُهَا جِدَارُ أَلْوَاحٍ وَ دُسُر
يَسْتَنِدُ بِرَثَّةِ ظَهْرهِ إلَى بَقَايَا الحَجَر
إِلَى أَكْوَامِ الحُفَـر ..
إِلَى يَبَسِ الشَّجَــر..
نَعْلُهَا النِّصْفِيُّ جِلْدٌ مُفَتَّق
فُتَاتُ قَرْعِهَا خَطْوٌ مُشَقَّق
مَالِي وَ نَصِيبِي مِنَ الحَلْوَى ؟ تَأَوَّهَت المَكْلُومَة
لَا مَأَوَى يُشْعِرُنِي بِالدِّفْءِ وَلَا مَنْ يَمْنَحُنِي بَصِيصَ أَمَـل
شَبَحِي يَقْتَاتُ مِنِّي أَزْرَارِي المَعْدُومَة
يُؤنِسُ طِفْلَتِي .. يُحْرِقُ دَمْعَتِي .. يُجْهِضُ فَرْحَتِي ..
يَنتَظِرُنِي جَسَدًا مُتَلَعْثِمًا عِنْدَ آخِرِ أَجَــل
بَنُو البَشَرِ مَا عَادَ نَحِيبُ حَمَامَاتِي يُؤَثِّـثُـهُم
مَا زَالُوا يَتَمَرّغُونَ بِوَادِي اللَّامُبَالَاةِ والبَلَل
بَلَغَتْ بِي حِبَالُ الغُصَّةِ مُنتَهَاهَا
لاَ أَعْرِفُ لِلنَّسَائِمِ عَبِيرَهَا وَ لَا شَذَاهَا
لاَ أَدْرِي أيُّ قُفْلٍ يُدَثِّـرُهُم ؟
أَيُّ صُبْحٍ يُزيِلُ غَفْوَتَهُم ؟
الجُوعُ يَحْكِي تَفَاصِيلَ جُثَّتِهِ .. مِقْصَلَةً يَقْتَرِف
وَ العَرَاءُ يُدَنْدِنُ تَعَارِيجَ حُبْكَتِه ..مَخَاضًا يَحْتَرِف
يَـــا أَنْتُم .. هَلْ رَأَيْتُم ؟
شَمَّـعْتُمْ فِي وَجْهِهَا كُلَّ بَصِيص
بِشَكْلٍ لاَ يُتِيحُ النّظَر.. وَلَا جَبْرَ الضَّرَر
وَلَوْ إطْلاَلَةٌ خَاطِفَةٌ عَلَى أمَلِ الْخَلاَص
فَهَلْ مِنْ مَحِيصٍ .. إذَا الْخَطْبُ جَاء؟
كَيْفَ لِخُطُوَاتِ أَرْمَلَةٍ تَتَبَعْثَر
كَيْفَ لِفُؤادِ طِفْلَةٍ أَنْ يَتَكَسَّر ؟
أَعَلِمْتُمْ .. كَمْ لِلْحِرْمَانِ الضَّرِيرِ مِن حَبَّةِ رَصَاص؟
يَا أَنْتُم .. هَلْ تَذَوَّقْتُم رَثَّةَ كِسَاء؟
أَحْشَاءٌ تُقْرَع .. دُمُوعٌ تُصْفَع ..وَ مَوْتٌ يُصْرَع
رَبِّ أَنْتَ المُرْتَجَى.. أَنْتَ الرَّحْمَانُ يَوْمَ القِصَاص !
: خليفة احميم