23 نوفمبر، 2024 10:17 ص
Search
Close this search box.

للفجر أبواب للفجر أبواب

للفجر أبواب للفجر أبواب

أن الكون منذ وجد أوجد لكل كائن لغته الخاصة , و كذا لكل شاعر لغته الخاصة وكي يكون الشاعر .. شاعرا رَائِيا يرى حقيقة الواقع وأفق المستقبل البعيد , عليه أن يخوض في أعمق أعماقه , ويقصي عنها كل ما يشوبها أن يبعد سموم الذات ويبقي الأحجار الكريمة فقط من الحب ودروس الألم والحزن والإبداع والاستنتاج من البحث والتأمل في الذات والماحول والأبدية  .
” أي أن يجعل من حواسه تلك الحواس الفاعلة برهافة الضوء , حواس تنتج حالات شعرية أشبه بطاقات النور في ليلة من التجلي الكبير “
 إذا ليصل لذاك عليه الإيمان المطلق بحواسه وقدرته على أن يرى ما لايرى في الكون .. أنه تلمس الشرفات الجميلة في قلب البشرية وكونها من خلال قلب الشاعر ذاته.. أنها مسؤولية كبيرة جدا ومتعبة للوصول لهذه الشرفات فكم تحتاج من عناء وبحث وتأمل ونفس نقية وشاعرية عالية .
وهذا ما فعله الشاعر كريم عبد الله
 فهو أمن بذاته وبإبداعه و نقّلَ بصره بين حقول الإبداع , وعاد لنفسه يستخرج منها الأروع .
ولكن  كان عليه بعد ذلك أن يبحث داخله , في أعمق أعماقه ويوجد لغته الخاصة أسلوبه الخاص في الكتابة , وأن يبحر ببصائره نحو الأفق البعيد حتى يستطسع إلتقاط تلك الطاقات , التي تطل على عالم النور الشعري البديع العذب التي ترسم الإحساس ببتجريدية وتعبيرية  الكلمة والصورة والمرمز أو الإيحاء وتضعنا فيه .
أنه انتقال مدارس الفن للشعر مرسومة بالحس والحرف والكلمة والتركيب بدلا من اللون والخط والتشكيل .
 وهذا ما فعله الشاعر كريم , تشكيل جديد من شعرية سردية تجريدية تعبيرية وأحيانا سريالية , جعلت له عالم خاص من رهافة العطاء وشفافية الكلمة التي تفتح أفق ” ما بعد الحداثة  “على مصراعيه
لنجد ذاك العالم الرائع الطيوف , أشبه بمدن كرستالية ملونة للشعر

إن دخولنا لعالم الشاعر كريم عبد الله الشفيف عالم نحتاج لدخوله من ثقافة رفيعة ورؤية عميقة وحواس رهيفة , محملة بأجهزة غاية في الجمال والدقة, لألتقاط الصور الشعرية التي يرسمها , لنلتقط  كل نقطة ضوء وكل مرمز وكل صورة ولوحة , وكل رسالة في القصيدة .
إذ أن تقرأ للشاعر كريم عبد الله يعني أن تقرأ لما بعد الحداثة الشعرية بمدارسها الرائعة … هي أن تجد نفسك في جنة خضراء من الشعر كتبت في حالة قصوى من التجلي والسفر في عالم رهيف شفاف أشبه برحلة بعيدة جدا بين النجوم الملونة وعوالمها
 أنها استشراقات راائعة, لغة كونية تفتح لك عالم راائع من السردية التعبيرية التجريدية في أروع حالاتها لتقدم القصيدة بلغة فارهة البلاغة .
 
فحين أبحر في كثير من نصوصه تحضرني دون سابق إنذار بعض نصوص رامبو بلغته النثرية السريالية , فهي لغة جديدة وموسيقا جديدة وتراكيب بعيدة كل البعد عن الجاهزية التي تمنحنا إياها ثقافتنا اللغوية والشعرية ,  لما تحمله من جمال جديد في حداثته وإبداعه وأقول جديد ما بعد الحداثة وأقصد ذاك تماما أنه إبداع بكل ما تعنيه الكلمة للقصيدة بكل أجزائها ومقوماته الفنية والبنائية واللغوية والموسيقية . وذاك لما أوجده في قصائده من نَهج  فيه راائع اللغة النابعة بكثير من رهافة الجمال والتصوير والأسلوب الرشيق المعبأ بالإيحاءات والمرمزات التي تدخل القارىء معه داخل النص وتتركه يكتشف بذاته أبعاد اللغة وما تحتويه وترمي إليه من مغزى .

 فقد كتب بلغة تحتمل أبعاد ثلاثية كما نراها في قصيدته الأولى للديوان 
 جنودُ الإله
جنودكَ المدجّجونَ بــ خيبتهم يجرجرونَ تعاسةَ المدينة  أمامَ سطوتكَ المتناهية بــ الطغيان الأعمى ينتهكونَ إنسانيتهم وأنتَ لا تعلمُ شيئاً عنْ ضفافِ التضرّع  المتسكّع عليها صوتها البعيدَ  .
أنها البوليفونية 
 حيث اتخذ منها طريقا تسلكه قصيدته السردية التعبيرية البولفونية تارة والفسيفسائية التعبيرية تارة أخرى
 .Polyphonie أن كلمة المأخوذة من عالم الموسيقا لعالم الرواية ومن ثم للشعر وهي عبارة عن كلمتين … 
وتعني تعدد  boly
 ..Bhonie وتعني صوت ..
 أي ” تعدد الصوت ” وهذا التعبير أتاح للشاعر من استخدام أكثر من صوت وأكثر من مستوى للصوت , ورأي وأيدولوجية في الرمز مغيبا شخص الشاعر خلف المرمزات التعبيرية العميقة الدلالة والواسعة المعنى وهذا التغييب, أعطاها معنى أعمق ولغة كونية باذخة,  تفتح أبواب التأويل على مصراعيه, لتكون لغة واسعة تنطلق للكون وليس فقط للمحيط المحلي أو العربي وهنا نرى أن الشعر من أسمى رسائله هو نقل رسالته للعالم أجمع .

وكما كتب أيضا القصيدة التعبيرية الفسيفسائية مثلاً كما في قصيدته
 ” أزهار الليلك “
أزهارُ الليلكِ على شرفتكِ والفجرُ الساطعُ في وجنتيكِ الورديتين وهذهِ السماءُ الشاسعةَ بزرقتها كعينيكِ الفيروزتينِ , ستسافرُ الروح فيها . تتعطّرُ بفيضٍ مِنْ أنفاسكِ الخرافيةِ , أسمعُ الأناشيدَ تتعالى في حصونكِ تستقبلُ خيولي , ما أوحشَ الطريقَ إليكِ إذا كانَ مظلماً وبعيدا . ….! .
أن لغة المرايا أو الفسيفساء .. وتعني بأن تمنح لكل لفظة أو تركيب مجازي , أكثر من صفة تعبر عنها وهذا ما نجده في ” أزهار الليلك ” فقد منحى اللفظة صفات عدة توصل لها .
أنه أفق آخر يفتحه الشاعر لنفسه وللمتلقي ليبحر بعيدا في كنه المعنى وليعطي للمعنى معان بلوحات عدة .
أن عملية التجدد التي أوجدها الشاعر في أسلوبه ومدرسته , ما هي إلا حالة إبداعية خاصة تتجاوز المألوف في مجتمعنا العربي .. وقد يُوجد الشاعر لغة يوصل بها ما يريد لمحيطه أو لعالمه العربي .. لكن الأجمل أن يبحث الشاعر عن لغة كونية تصل للكون كافة , بيسر وجمالية , بلغته وأسلوبه وصوره الشعرية الخاصة به لتشكل مدرسته الخاصة .
التي تكون بمثابة جسر يوصل بين العالم الداخلي للشاعر والعالم الخارجي , متخذا من إبداعه وبحثه الدؤوب المضني السبيل للوصول , أنه تعب ما بعده تعب أن يحمل الشاعر على عاتقه مسؤولية الوصول للمطلق
وهذا مافعله الأستاذ كريم .
أن قصائده الخمسة والعشرون ما هي هنا إلا لوحات عالية الفنية والشعرية تخرج من الروح لتصل للروح , لتتجرد من إظهار ذات الشاعر الخاصة إلى العام ..  للإيحاء بالرمز بروح مرتفعة الحس , متوهجة التجلي , لغة تمسك اللحظة الشعرية المتدفقة بكل ألوانها  وأطيافها النورانية من غمار الانفعالات الشعرية الطافية للأعلى من فضاء الشعرية العميقة والألقة داخل الشاعر لحظة تبرق وتتوهج .. أنه فجر الذات الشعرية الذي قبض عليه الشاعر داخله .

هذا هو الشاعر كريم عبد الله في ديوانه وقصائده السردية التعبيرية البولفونية والفسيفسائية التجريدية ببساطة بعيدا عن التعقيد .. فلغته الرائعة هي ما يمكن القول عنها أنها لغة بلورية نقية بعيدة عن النحت بالأزاميل بل أنها لغة تفتح أبواب الفجر بكل جمال  .

أحدث المقالات

أحدث المقالات