أتصاليات الاخفاق في (المركب) للروائي غائب طعمة فرمان
(1927- 18/ آب/ 1990)
،، يكاد يكون غائب طعمة فرمان الكاتب العراقي الوحيد
الذي برّكب أشخاصه ُ وأحداثه ُ قي روايته تركيبا حقيقيا،،
جبرا ابراهيم جبرا
(1)
القراءة ..عملٌ يتحقق في التشكلات الخطابية،عبر هذا العمل يتماوج الساكن النص،فالنص ،حسب (آيزر)لايصوغ توقعات ولايحدد وسيلة تطبيق الربط بين الذاكرات إنما من خلال ماتعمله القراءة تشتغل منتوجات تماوجية متنوعة منها :التجنيسية/التخييلية/ التصنيفية/ ويكون التماوج تلقائيا ومعلقا تعليقا فينومينولوجيا بين مايستحضره،ومايغيبه عمل القراءة..وهكذا يبحث فعل القراءة عن الهرمينوطيقا،ليبث في سيرورة النص مايوحي بالمنسجم نصيا،من خلال تفعيل مشيدات متعاضدة فيما بينهما إتصاليا.. بين خصوصية السرد وسياقه الجمالي من جهة وبين التشكل الجمالي ونسقه الثقافي من جهة ثانية…وبالطريقة هذه يصيرالوجود النصي علامة انفتاح لاتميزا لصنف خاص معين فحسب بل رديفا للتفاعل التكويني والمشيد المتغاير…..ورواية(المركب) للروائي الحاضر فينا غائب طعمة فرمان مثلما هي(شجاعة مكتوبة) على حدقول احد شخوص الرواية فأنها في الوقت نفسه تقدم عبر جيولوجيات النص عدة قراءات من خلال قراءاتها السردية للواقع العراقي ..وها انا أحاول عبرقراءة انتاجية الطواف على القراءة الاولى المنتجة من قبل الروائي ذاته..
(2)
المسافة.. مقايسة بعمرالانسان ليست قصيرة بين رواية (خمسة أصوات.) و روايته الاخيرة (المركب) ترك لنا الروائي ثمان روايات تعتبر (خمسة اصوات) الثانية..اما المركب فهي مسك ختام العمرين الحياتي والروائي..خمسة اصوات صدرت الطبعة الاولى /1967/دار الاداب بيروت…المركب صدرت عام 1989،عن نفس الدار،وصدرت عن المدى الطبعة الثانية 2009..في خمسة أصوات الشخوص الخمسة من الوسط الثقافي ويعملون في الصحف ..رواية المركب..الشخوص يعملون في مؤسسة حكومية
*زمن رواية (المركب )هو ثلاثة اشهر:
(..يبدو أنني عشتُ عمرا كاملا خلال هذه الاشهر الثلاثة/ص390)
لكن السارد العليم سعى الى توسيع الزمن في المئة الورقية الاخيرة من المطبوع…وهو يزوّد المتلقي بوثائق عن الشخوص وازمنتهم النفسية التي تلاحقهم..
هندسة الرواية
تبدأ سيرورة الرواية جهتها صوب جزيرة ام الخنازير تنغلق السيرورة في ختام الرواية عائدة الى الجزيرة ذاتهاوكأن هذه الجزيرة سرة الرواية.. واي مكان حين يتشيد نصيا لايحيل الى الواقع،قدر إحالته الى الرمز من خلال محموله الدلالي في السياق النصي..وهذا يعني ا ن الموضعة النصية ليس نسخة طبق الاصل..*بسبب الجزيرة تتكشف الميول(بقيت خديعة ام الخنازير تحز في نفس عصام/242)..
شذرنة الحدث
*في الجزيرة يحدث توقيعٌ غامضٌ يستهدف سمعة الشابة (سهام ابراهيم) ولاتتكشف حقيقته إلا في (كان يراقبنا طوال سفرتنا الى ام الخنازير،فطنت الى ذلك رأسا،حتى ونحن في المركب،وبعد ذلك لم يتركني لحظة واحدة. كنت أرى عينيه الحمراوين اينما أذهب..تصورت أنني وجدتُ فرصة لأهرب من عينيه الدمويتين تسللتُ الى ركن منعزل في بقعة أعشاب طويلة،وأحتميتُ هناك لأستريح،وأزيل عني بعض التعب والتوتر،وأستلقيتُ على العشب وتصورتُ أنني سأغفو دقائق.كان النعاس يطبق على جفوني وأستدرتُ على جنبي،فرأيتُ عينيه المرعبتين كعيني جنيّ مسعورتنظران اليّ من بين سيقان العشب،نهضت كالمجنون،وصحتُ كازة على أسناني: خنزير! وأردت أن أفضحه وأكشف أوراقه، ولكن الجبان فر./ص156)
وإذا صح أعتباره ا فضحا وانكشافا ،فهو انكشاف وفضح مِن طرف واحد..لم يعزز من قبل الغير….على المستوى التقني نلاحظ الحدث هنا(يجري تأجيله وتقطيعه
والتستر عليه/72ص/حسب شارل كريفل)..انها عملية شذرنة متعمدة من قبل منتج النص ..ثم يعاود النص الوقوف امام الحدث نفسه في (ص341)اي بعد قراءة (185ص) من الرواية ليكشف غموض ماجرى من خلال حوارية بين شهاب وخليل الرسام :
(هل سيتصور عقلك أن حادثة اغتصاب جرت في أم الخنازير؟
* كنتُ أشك في ذلك منذ البداية…..
* كانت أكذوبة،وقد تخلّصوا من المعتدي عليها بالزور.والآن تخلصوا من المغتصب أيضا.متى رأيت جابر الساقط آخر مرة؟..أختفى ..خلاص…دليل الإثبات اختفى…كان ذلك خدعة واضحة / ص341)
*بنية الاخفاق ..
الأخفاق: هو الرابط الاتصالي بين الشخوص..تبدأ الرواية بمشهد سينمي آسر(أستداروا إلى شارع أبي نؤاس،فرأوا دجلة في انتظارهم وفي شمس آخر آذار بدت بلون القهوة المخلوطة بالحليب. شهقت سياراتهم حين تحولت الى السرعة الثالثة ،وكأنها عبّت نشقة من هواء رطب. وانطلقت محمولة على نسيم شاف / ص5) ويستمر التوصيف والحوار المنسجم بين الاصدقاء ثم..يتفاجأ الاصدقاء بخديعة قد تبدو مجرد مشاكسة سمجة ،بالنسبة لفعل القراءة الذي يكون للتو في ص11 من الرواية..فالمشاركون في الرحلة، رحلوا نحو الجزيرة..(تحركوا في الثامنة والنصف ) أي قبل الموعد المتفق عليه..(كيف تحركوا؟ لم تحن الساعة التاسعة بعد)..هنا يومىء الاخفاق لفطنة القارىء في القراءة الثانية للرواية،ثم يتخفى في المنتوج اللفظي للسرد،ليباغتنا بين الحين والآخر..ولم ينجوا الذين تمتعوا بالوصول لجزيرة ام الخنازير من الاخفاق..فقد حدث لهم ما سيشكل عصب الدرس الاخلاقي للرواية..هذا الدرس يحتوي شحنة عالية من المحذوف..الى نهاية المنتوجات اللفظية للمتن الروائي
*الذاكرة التذكارية
شخوص الرواية تتذكر حياتها أكثر مما تعيشها،كلهم مصابون ب(تثبيتات السعادة) تتدفق في ذاكراتهم ازمنتهم النفسية،وحتى حين يجالدون للتساكن او العيش ولو على مشارف المستقبل ينكسرون كالفايركس( كان لهؤلاء خيباتهم الصغيرة،ومطاليبهم القصيرة الاجل/23)..انهم لايحلمون فوق طاقة عضلاتهم الاجتماعية لكنهم محاصرون بالجبر الالهي / الحتم التاريخي…لذا يكون كلام الرسام خليل موجها
لذاته كما هو موجهه لصديقه عبد المنعم حسن هذا الكلام يتعالى بنبرة مجروحة جرحا غائرا:
(أسألك بضميرك الذي صاحبك كل هذا العمر الطويل،لِمَ هذه
النزعة الفظيعة في تشويه كل ماهو جميل ورصين وعاقل؟
لِمَ تلطخ الاشياء الحلوة بالوحل،وتبذل المحاولات لإفساد مالايفسد؟ ماهذه الرغبة؟ من اي مستنقع من العقل الباطن تصعد؟/ص111)..
ثم يصف السارد العليم وجه خليل حين كان يتكلم (كان خليل في جملته الاخيرة متوترا وعصبيا حتى تندت عيناه الحزينتان وأمتلأ صدره النحيل بالعبرة،أشفق الشيخ عليه وجاراه..)
(*)
مع الصفحات الاولى .. يلمّح السارد للزمن النفسي..عبر لقطة باشالارية في يقظة ماء أحلام في شيخ نعمة .هل هي اشكالية جمرة الوعي حين تتقد في روح الانسان الشقي وفي علاقاته مع الشرط الاجتماعي،الذي لايتخلى عن مشيدات وعيه او يتنازل عنها،وهنا يكافئه المجتمع بالأغتراب ولن يكون معه سواه، انه مخذول من الكل،وهو في نفس الوقت يعي ضرورة تجديد وعيه كما حاول الرسام خليل، ولكن ثمة حتم تاريخي يشاكسه للنهاية..شخوص رواية المركب ليس لهم حماسات شخوص رواية خمسة أصوات..فالمسافة بين نضالات خمسينيات القرن
ومنتصف السبعينات وهو زمن رواية المركب،مثقلة بأحباطات الحركة الثورية العراقية..حيث اصبح الملتزم السابق،لايطلب الان سوى العيش والعيش فقط كما يعلنها رائد الشيوعي السابق..والذي اكتفى باليومي والسائد في الكتابة والحياة…
(3)
من التسموية والقرينة المهنية الى الاسم المكتفي بفردانيته
في (النخلة والجيران) الخطوة الروائية الاولى لغائب طعمة فرمان.. كان المؤلف لايكتفي بالتسمية كعلامة بل يقرنها بالمهنة فيتعلم الشخص بعلامتين:
*صاحب ابو البايسكلات
*سليمة الخبازة
*حمادي العربنجي
*مرهون السايس
*أحمد الجايجي
*فتحية ام الباجلة
أو تضاف العاهة للأسم : أسومة العرجة
*أو يهمل الاسم، وتكون الكنية مرتبطة بعاهة : إبن الحولة
(*)
في (المركب) يكتفي السرد بالاسم المفرد: عصام/ خليل/ شهاب/ رائد/ سهام/ شروق/لميس/ عطا/ عطية/ جابر/نعمة/ وصال/شذر/ عباس ونداس/
انهم محض اسماء عائمة في علاقات اجتماعية عائمة..في مجتمع عائم..في المائة الرابعة من الرواية يتعمد المؤلف تثبيت الاسم مع اسم الاب فقط لغاية معينة..
وشخوص رواية المركب..مسلوبون/ مغتربون في ذواتهم/ خائبون اجتماعيا/ او انتهازيون بالوراثة..
الشخوص من خلال مفقوداتهم..
*عصام هجرهُ الشعر
*خليل الرسام يريد التمرد على لوحاته التسويقية
*رائد تخلى عن حزبه الشيوعي ولم يخلّص نفسه..
*عبد المنعم يشعر ان الفقر اغتصب حياته
*شهاب يشكو من عجز جنسي،
*سهام ابراهيم تحاربها الذكورة لسبب واحد …لأنها شريفة ومتعالية في سلوكها اليومي وقوية الشخصية
*شروق يحاربها المجتمع لأنها تدخن
*خليل الرسام ابوه يحتقره لأن الرسام(بيعار)
*عصام : والده يستهين به،لأنه جعل ابنه عند طليقته لميس
(4)
آنية الشعر/أثاث الرواية
من الممكن للشاعر المغترب ان يواصل العزف على اوتار الوطن عبر المخيلة.فالشعر(ابن اللحظات الانية التي تومض كالبرق،فتقتنصها الصورة الشعرية لتديم حضورها/35/ جابر عصفور).لكن انىّ للروائي ذلك؟ اقصد ان ذاكرة الروائي تحتاج الى تجديد اثاث يتزامن مع المتغير الطبوغرافي والسيسو لوجي فالرواية(ابنة اللحظات المتعاقبة..ابنة اللحظات الرمادية من التحول/جابر عصفور/ زمن الرواية/ دار المدى/ط1/1999) ولايكفي ان ترصد تحولات اللحظة التاريخية ضمن بنيتها الفكرية ..وتجعل الشخوص في شارع الخمسينات حين تجري الاحداث في السبعينات..كما يحدث في روايات غائب طعمة فرمان
(5)
السيد معروف..أو غائب طعمة فرمان بالإنابة
نعم تحتاج الروايات لذلك الحشو الذي جعل بورخس ينفر من كتاب الروايات..والمرة الوحيدة التي نجا غائب فرمان منها كان ذلك في الرواية القصيرة ذات الاقتصاد الاسلوبي المزاوج بين ثقافة الشخصية المحورية وبين ما يجرى الان اعني بذلك رواية(آلام السيد معروف) حقا كما قال عنها عبد الرحمن منيف(البناء الروائي في آلام السيد معروف مشدود متناسق/141ص/منيف لوعة الغياب/ ط4/2007/المؤسسة العربية/بيروت)
(6)
الرائحة كخريطة للرواية
ليس الاسم او المهنة او السلوك ينضد علاماتيا.فقط.هناك الرائحة والتي تشغل فضاء ًحيويا في الرواية..حيث تتكررعلامتية الرائحة(29) مرة..وفي كل مرة تختلف وظيفة الرائحة وجهتها العلامتية كمهاد او كذاكرة او كمصد..
(7)..
البنية الاجتماعية إتصاليا
تشتغل الاتصاليات بين الشخوص كالتالي:
عصام
*عصام———الاب / هيمنة
*عصام———– واخوه قيس/ تشكك من قبل عصام
*عصام———– لميس/ عشق
عصام———– لميس / زواج
عصام———-لميس/ تفكك
عصام——– لميس= ولدهما هاني
عصام——— لميس/شعورها ان عصام استلب حياتها
شعور عصام انها سبب جفافه شعريا
عصام—— لميس / طلاق
*عصام———— هاني/ ابوة وبنونة
*عصام———– رائد/ علاقة متماوجة
*عصام———- وصال/ جنس
*عصام———- المدير العام/ تعاضد/ ثم توهيم ينتجه المدير
*عصام——– عاطف/ علاقة مشفّرة /تظهر في ص362/ وتختفي لتظهر في ص412
خليل
هل خليل هو الوجه المتمم ل(مظهر الرسام) في رواية المرتجى المؤجل،الذي يؤمن (لكل قوقعته الخاصة يلجأ اليها في ايام الحزن
او الضيق بعيدا عن الاخرين/ص38)؟!
سنثبت اتصاليات خليل الاجتماعية،وهي كالتالي:
*خليل——– حسنة/ حاجة/ حذف من قبل خليل
*خليل——– ووالده/ علاقة سالبة
*خليل——— منعم/ جوار
*خليل———- شهاب/ روتين دوام
*خليل———- شذر/ حب من طرف خليل
*خليل——- عباس ونداس/ تضاد ذوقي
*خليل ——- الفن/ تسويق/ ثم محاولة تمرد
*خليل——— سهام/ احترام متبادل وتشجيع من قبلها لفنه
*خليل ——– شروق/ تشجيع لفنه
شهاب
*شهاب ——– ووالده/ علاقة توجيه مستمر
شهاب——- المدير الجديد/ علاقة سلبية
شهاب——– ابوحسين/ فساد إداري
شهاب——— خليل/ علاقة موجبة
شهاب———- عصام/ تضاد مسلفن
شهاب———- تلك المرأة/ قوة دافعة في شفائه من العجز الجنسي..
شروق
شروق——- عطا/ علاقة تحررية،تحاول شروق تحرير عطا من غفلته
شروق—— عطا/ زواج
شروق—— عطية/ صداقة حقيقية
عطية——– عطا/ اخوة وحنان
سهام
جابر———- سهام/ مكلف بالأساءة لها
سهام——– وعائلتها علاقة تضاد
سهام ——— رائد/ عداء ص131
سهام———- عصام/ عداء/131..
(*)
*المرأة في رواية المركب
في رواية تبلغ(415)صفحة، نلاحظ ان حضور المرأة ليس بالقوة مقارنة بحضور الرجل..فهي مستلبة :
*لميس استلبها عصام
*حسنة استلبها خليل ثم هربت منه
*شروق..رغم شخصيتها غير النمطية لكنها لم تمنح المساحة الروائية التي تستحقها
*سهام والتي لها اهمية كبرى حتى منتصف الرواية..نرى ان المؤلف يغيبها،بعد نقلها الى دائرة أخرى !!
*زوجة عباس ونداس /142تبدو قوية الشكيمة في التصدي لزيارة الرسام خليل الاخيرة وينتهي دورها ودور زوجها وابنة زوجها شذر..
*وصال عشيقة عصام لاتتعدى البعد النمطي المتعارف عليه..وحسب عصام كل سيرتها من نسيج فلم مصري
*خليل ولوحة شذر
في رسمه للصبية شذر وصلت درجة الاتقاد في تمرده على نفسه غايتها القصوى..قرر الخروج عن شروط السوق والشروط هي: توسيع العينين/ تصغير الانف واصبح لوحة شذر مرآة يريد رؤية نفسه العذراء فيها من خلال رسم البراءة الناصعة..هل نحن هنا أمام طبعة عراقية من( دوريان غراي) للروائي أوسكار وايلد ؟!
(*)
الاندراج النفسي سأعمد الى ترقيمه كالتالي :
(1) الصالون الفاخر الرحيب خال ٍ، أفرد لهما خصيصاً ولكن الرسام كان يشعر بأنه مراقب ،ظهره أكثر حساسية من عينيه ، يحس ّ عليه وخز نظرات متلصصة / ص137)..هنا يشعر خليل ان حرية فرشاته في التعبير محددة ومرصودة
(2) منذ التخطيطات الأولى شعر خليل بأنه مكلّف بمهمة صعبة تعجز طاقاته المتلبدة مع الأيام عن النهوض بها ،عن نقل كل هذه النشقة الصاعقة من الجمال ،
هذا الوجع الفاجع برصانته اللاطفولية، المشع ّ بوهج الشباب ./ ص138..
هنا يتشكل تضاد اتصالي بين ذات المبدع والموضوع الفني
(3) كان السأم يلقي ظلا شجيا شريدا ،وكان هذا الظل يعطي لوجه الفتاة بُعْد َ هم ًّ مكظوم ،وأختلاجة زعل ،وكأنما أخرجت من نكتة فاحشة قيلت في حضورها /ص139 هنا التقطت حساسية الفنان : المكبوت في ذات الفتاة التي يرسمها
(4) وسأل نفسه :متى أنتهي من رسمها؟ يوم القيامة ؟ ونظر إليها محاولا جهد مستطاعه أن تكون نظرته حيادية، لاقطة، نظرة رسام الى موديل ،ولكن نظراته أهتزت حين ألتقت برصانة عينيها الصافيتين / ص140..هنا حدث التوهج المربك لدى الفنان بسبب ماتبثه عينا الفتاة من رصانة سردانية
(5) كان في لحظة من الاستعداد النفسي والذهني لأن يبتر الجزء التجاري من حياته والذي يشكل وا أسفاه ، تسعة أعشار حياته / ص 141 في هذه الوحدة السردية الصغرى، دخل ذات الفنان الى المطهر الجمالي (6) كان لمعان البرونز يستطيل ليصير ابتسامة سخرية تزري بوجه الفتاة
وتضفي الشحوب عليه، وعلى شعرها ليصير رفات لون /ص164 البرونز هنا هو
علامة تومىء الى لون الابريق الذهبي الذي اضافه (عباس ونداس) والد الفتاة شذر
على ديكور الرسمة، وهي ليست اضافة بل تدخل سافر ينم عن ذوق والدها التجاري..من هذا التدخل ستنبجس بنية الاخفاق ،حيث ستقوم زوجة والد شذر الى طرد الفنان.. والسبب الحقيقي هو مايعلنه الفنان في الفقرة التالية :
(7) الناس يتصورون الفنان جالف صحون وقدور ؟ يريدون منه أن يجلف الصدأ من أجسادهم وأرواحهم المسخمة…أنا ضد الفكرة / ص173
(*)
المكان بشحناته..
المكان في روايات فرمان ليس محض فضاء للتحرك،إذ يتنوع توظيف المكان في خصوباته فهو الذات /الموضوع …الحامل / المحمول،وهو الفاعل والمفعول ..نلاحظ في رواية فرمان تحولات سيرورة المكان من بنية وموضوع للسرد الى قوة فاعل في تشيّد النص..
*جزيرة ام الخنازير..
*هي المكان المفتتح لنص الرواية
*وهي العنوان الاول للرواية ذاتها أما المركب فالعنوان الذي اقترحته دار الآداب على المؤلف..ربما خوف الدار من تأويل العنونة ضد السلطة آنذاك..
*وما يحدث فيها نقطة الدائرة(بعد ذلك النهار المشؤوم،تأذيت من خيانة الآخرين..ولكن اقول الآن: الحمد لله اننا لم نشترك في تلك السفرة التي تدور عنها هذه الايام شائعات توجع الراس)
وجزيرة ام الخنازير(عالم غريب مزروع وسط بغداد،غابة،أحراش،يمكن ان تجري فيها مختلف الاشياء)
*وهي الباب المفتوح في نهاية الصفحة الاخيرة من الرواية ،فثمة من يتحدث عن سفرة عاد منها للتو من أم الخنازير(مسافة ساعة وربع بالمركب..عندنا مركبنا الخاص ،صغير ،ولكنه مريح../ص415)
*وأم الخنازير بالنسبة لعصام موشومة كخديعة في زمنه النفسي(بقيت خديعة ام الخنازير تحز في نفسه.لم يصدق بالحجج التي ساقها شهاب…./ص242)..
من هنا تكتسب جزيرة ام الخنازير احقية تسميتها ب(الفضاء المرجعي) حسب(يوري آيزر فايك)..ومن خلال هذا التشخيص الفضائي،ستتضح الاواصر بين شخوص الرواية ولايخلو هذا المرجع الفضائي من دلالة ايدلوجية
(*عالم غريب
*مزروع وسط بغداد
*يمكن ان تجري فيها مختلف الاشياء)
ان هذا الفضاء المرجعي ينماز: بالغرابة والإمكان..رغم انه ليس على مبعدة من العاصمة.
(*)
*الطريق من الكوت الى الرفاعي :
نحن هنا أمام فضاء مرجعي خاص بطفولة شيخ نعمة ،تقترن الطريق بالرعب والخوف على المعيل /الأب
*بغداد هي الفضاء المرجعي لكافة فضاء سرود غائب طعمة فرمان..في ص69يعمد المؤلف الى تقنية(الاستراحة) حسب جان ريكاردو والاستراحة هي وقفة معينه ينتجها السارد العليم ،من وحدة وصفية صغرى،تؤدي الى قطع مؤقت في سيرورة السرد ..(كانت روائح المدينة العجوز تتصاعد من جسدها المتخم بحلي حضارة هجينة،لتخفي ظلال الماضي الرثة وكانت السيارات العابرة للشوارع العريضة والباصات المزركشة بألوان أفريقية ومرايا ومخرمات تفعم الناس بشعور الضآلة وانعدام الامان وكانت المحلات الانيقة المطله على ارصفة مخلوعة البلاطات،متعرجة تشي بترف شكلي مستورد مبرقع بطبقة غبار دسمة من صنع محلي)..هنا تختلط اللقطة الفوتو مع الاحساس الذاتي
*روائح المدينة العجوز
*جسدها المتخم بحلي حضارة هجينة
*ظلال الماضي الرثة
*السيارات العابرة للشوارع العريضة والباصات المزركشة
بألوان افريقية ومرايا ومخرمات تفعم الناس
*المحلات الانيقة
*أرصفة مخلوعة البلاطات
اما الاحساس الذاتي فيتجسد في هاتين الفقرتين القصيرتين :
*شعور بالضآلة وانعدام الامان
*طبقة غبار دسمة من صنع محلي
السارد العليم هنا يقدم مسحا فوتوغرافيا وفي ذات الوقت يكشط بشرة الظاهر ..ان هذا الفضاء المتخيل ضمن نص روائي قام بتحفيزه للدليل اللغوي في الكشف عن الخطاب الايدلوجي المؤسس للفضاء المشخص – حسب يوري آيزنر فايك –
*بغداد بالنسبة للقادم صوبها للمرة الاولى او الذي يقصدها قليلا ستكون بغداد متاهة كما كانت بالنسبة لأخت رائد(202)..وقبلها كانت متاهة(كريم داود) في رواية (المخاض) الذي غاب عن الوطن وعاد بعيد المتغيرات التي اجرتها ثورة 14تموز في البنية الأجتماعية وانعكست في البنية العمرانية، حيث تهدمت الاحياء القديمة وانتقلت عائلته الى عنوان آخر ليس بحوزته ان المتغيرات ليست مؤطرة بل هي تشمل العام والخاص وعلى حد قول نوري السائق في رواية المخاض(الانسان أحيانا يتصور أنه وحده الذي تغير،ولكن الحقيقة ان الدنيا كلها تغيرت معه/ص254) ..
*بغداد بالنسبة لرائد(..غريبة عليه،ليس فيها شيء من نفسه،لاالماضي ولاالحاضر ولاالمستقبل ربما.ويريد ان يغزوها؟ تغزوه ولايغزوها .جابهته بلا مبالاته الفرعونية،بغبارها..بوجوه أناسها الخشنة المنطوية على اسرار ممسوحة/201)..
*بغداد جعلت عصام في معزل عنها(لم اعد أحب الخروج الى الكازينوهات.القسم المخصص منها للعائلات يخيفني مثل بيت سرّي والقسم المخصص للرجال يقززني مثل قيء رجل مخمور..لا،لا…لم تعد بغداد تصلح لطيب المزاج/ص14)..
وحين يسأل عصام صديقه رائد: لماذا كل هذه الكراهية التي يحملها لبغداد النازحون اليها؟ يحيبه رائد : أنا أعرف أنك تدعي أنك بغدادي بالولادة.لاعلينا،نازحون نعم،كل الذين هم من أصل غير بغدادي هم نازحون بالنسبة لأهل بغداد،بالفصحى والعامية، الى هذا الحد يحتقرونهم،ولكنني – وشدّ قبضته في الهواء –
سأغزوها رغم هذه الكراهية والاحتقار،أو بسبب هذه الكراهية والاحتقار.لقد جئتُ لأعري حقارتها كأيه عاصمة من عواصم العالم،ولأنها بغداد التي تعودت على مذلة المغول والتتر وحكم السلاطين،عثمانيين وغيرهم،ومع ذلك فهي تبخل على أبناء
قطرها فلاتشملهم برعاية، وتتركهم يقاتلون في مختلف الطرق المشروعة ليثبتوا هوياتهم..بغداد تحتقرهم وتحب نفسها/ص127)
فيجيبه عصام:(بالعكس،أعتقد ا ن اهل بغداد كوزموبوليتيون،وليست لديهم نعرة البلدات الصغيرة في العراق.البغداديون هذا طبعهم،لايتضامنون بينما التضامن موجود بين اهل كل مدينة عراقية) فيرد عليه رائد
(لا،ياعصام أنت مخطىء،أنظر الى اهل بغداد حين يتحدثون،يشيرون دائما الى الطارىء عليهم.هذا من الحلة،وهذا من اهل الموصل،وهذا راوي،وهذا عاني…أليس ذلك احتقارا؟)
فيبررعصام ذلك في قوله(لاأظن ،هذه عادة وليست احتقارا .البغداديون ايضا يشيرون الى محلاتهم،حين يتحدثون عن الاشخاص.هذا من الفضل وهذا من الشواكة،الى آخره)
وهنا يختم رائد هذه الحوارية المتبغددة في قوله
(إن حكام العراق المتعاقبين،في السابق،بالطبع لايهتمون إلا
ببغداد ويتركون المدن العراقية الاخرى تذوي في عزلتها/128)
(*) .
السرد بالأنابة ..
*ينوب الشخوص عن السارد العليم في الكشف عن الشخوص
*رائد يحدثنا عن خليل/201
*خليل يحدثنا عن شيخ نعمة/263
*خليل عن …عباس
*شهاب ..عن ابيه
*عصام عن ابيه
*عصام عن وصال
*المحذوف من النص..
حين انتهي من تكرار قراءة النص الروائي،احاول ردم فجوات قراءتي التي لاتكف عن إنتاج الأسئلة الاشكالية :لماذا كانت سهام ابراهيم هدفا استراتيجيا في السفرة؟
*ولماذا جابر يقتل قبل نهاية الرواية؟ ومن القتلة؟
*واذاكانت سهام بهذا الوعي التحرري والشخصية القوية ماالذي جعلها..تنشد استراحة في معزل عن الكل؟..
هل يمكن ان نصوغ مفتاحا لهذه الشفرات المتراكبة على بعض من خلال العودة الى ص341؟ ان كل ما جرى في السفرة لأم الخنازير محض أفك لتشويه سمعة سهام
(هل سيتصور عقلك أن حادثة اغتصاب جرت في أم الخنازير؟ كانت أكذوبة، تخلصوا فيها من المعتدى عليها بالزور والآن تخلصوا من المغتصب أيضا/ ص341)
وبعد هذا المفتاح نتساءل كم نسبة المتواطئين في هذه المكيدة؟ ان سيرورة الروايةهنا تشتغل على النبرة الخافتة،التي توهمنا بعدم اكتراثها للموضوع..ثم تمنح الموضوع ذاته سيرورته الجوفية ليصل الى عائلة سهام
*المدير العام وهو يهيىء لصعود عصام..ويوهمه بأنه الممثل الشرعي عنه اي عن المدير في توقيع العقود..(كان يترك لعصام ان يتصور أنه سيد الموقف ،يمتلك التأثير في القرار،بينما كان المدير العام يدير كل شيء قبل ان يصل الى يدي عصام وكان في الوقت ذاته يغذي في عصام روح الطموح والصعود ويوقعه في غرابة الاشياء الجديدة ومقتضيات المنصب /326)
ألا يمكن ان يكون هو الذي نسج العلاقة بين وصال وبين عصام؟
*في ص362 يظهر شخص يعرف نفسه الى عصام من خلال اخيه( أنا أخو الدكتور ماهر..كنتما تدرسان في انكلترا معا أنت في الهندسة وهو في معهد الطب الملكي) وفي اليوم التالي بعد إستيقاظ عصام سيدس المؤلف شفرة مغلقة في طية النص ..(تذكر زجاجة الويسكي التي تركها الى النصف ،وهذيان أخي ماهر وإلحاحه على مسائل لابد ان تبقى سرا/ ص364)
ثم يختفي الشخص ليظهر في ص412 على طريقة نجيب محفوظ في نهاية الرواية
يظهر شخص اسمه عاطف..والاسم بحد ذاته مجاور صوتيا لأسم عصام..ويدعو لسفرة الى جزيرة ام الخنازيرويخبره ان جابر انقتل ويدعي عاطف ان عائلة سهام قتلته غسلا للعار؟؟ وهنا السؤال لماذا عائلة سهام ومن هو عاطف؟ وهل يمكن
لعائلة شرقية تغسل العار بهذه الطريقة الناقصة؟ اي لايقتلون ابنتهم ايضا؟
ربما بهذه الطريقة يبرم مؤلف النص غائب طعمة فرمان عقد القراءة اللامرئي لكنه المحسوس بينه وبيننا كقراء منتجين لنصوص تشيد من منظومة اوجاعنا العراقية التي تتقن المتاهه والتمويه..ويمكن ان ننظم نظام معلوماتي شكلي للمدعو (عاطف):
*بداية تعامله مع عصام،تكشف عن تخطيط مسبق وانه كان يراقب
عصام متحينا المكان الاكثر ملائمة للمكا شفة..
*قدّم نفسه بالانابة من خلال رشوة
*قدّم نفسه من خلال اخيه ..ثم من خلال عمله
*تحدث مع عصام بمايريده هو..وأوصاه بالتكتم
وهنا التساؤل ..من ارسله شهاب؟ الم يتوعد شهاب عصاما؟
(لاتخف..سيأتي يوم يجد نفسه في ورطة مثلي..لايدوم في صعود
سيوقعونه في مطب،أوعلى الاقل يشوهون سمعته مثلما شوهوا سمعة المدير العام/341ص)..أعني احد العملاء التجار الذين كانوا يرشون شهاب لترسو عليهم المناقصات…حين نكشط طباقات من النص الروائي، ألا يومىء النص من خلال الفساد الاداري الى من يقف خلف الكاميرا؟ الى سلطة السلطة ليس فقط في زمن الرواية، بل في الزمن الذي كتب َ الروائي روايته وأصبحت صالحة للقراءة في (آواخر1987) كماهو مثبت في نهاية الصفحة الاخيرة من الرواية ص415..ثمة
سلوكيات مؤسساتية لاتنتسب لغير منظومة المخابرات التي تتمظهر بتنويعات من الاقنعة الادارية والاجتماعية…في تصعيد مَن تريد استعمله لها مثل عصام ومشتقاته وفي تسقيط وتشويه سمعة من يرفض التعاون مثل الموظفة سهام التي سعوا الى تشويه سمعتها…وحين ينتهون من استعمال (جابر) كأداة تلويث ..سيقومون بتصفيته..
(*)
نجارة المركب
بخبرته الروائية العريقة..تعمد منتج النص في تشظية هذه السيادة السالبة في الفضاء المرجعي للنص..فالمراقبة والملاحقة ليست فقط من سمات الدولة القمعية،بل هي مترسخة في البنية الاجتماعية للبيئة وهذا يعني ان في كل ذات شرطي يلاحق سواه وثمة شرطي يلاحق الشرطي الاول…ضمن فضاء قمعي..مخابراتي..لم تعلن عنه سيرورة الرواية بنبرة منبرية،بل توسلت الاجراءات الأكثرة دلالة وأقوى وقعا،عبر تجسيد ذلك من خلال أحاسيس الشخوص حينا وحينا آخر من خلال السارد العليم.
*مؤلفات غائب طعمة فرمان التي استعنا بها
(1) المركب / دار المدى – بغداد – ط2 – 2009
(2) النخلة والجيران / دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد / ط2/ 2007
(3) المرتجى المؤجل/منشورات بابل – الفارابي/ بيروت / 1986
(4) المخاض /منشورات مكتبة التحرير/ بغداد /ط1/ 1974
(5) عبد الرحمن منيف / لوعة الغياب /ص141/ ط4/ المؤسسة العربية /بيروت/ 2007
———————————————————–