العالم كله ينظر إلى العراق . يقضي سهراته على أخبار العراق . ويستمع بقيلولته على ما يحدث في العراق ، حتى أنهم بدأوا يشتركون في كيبلات الفضائيات العراقية لأجل معرفة ماذا يستجد في العراق .
البسطاء كي يستأنسوا بمتعة الخبر وليقنعوا أنفسهم بأنه رغم العوز والبطالة فهم آمنون ، إذ لا يتعرضون إلى ما يتعرض له بسطاء العراق في قيلولة المقهى حين يندس بين الأرائك شبحا متمنطق بحزامٍ ناسف ويعلنها حربا مع البشر وأقداح الشاي ، وبسبب الزحام تأتي الإطفائية متأخرة وكذا الشرطة وسيارات الإسعاف ليبدأ البحث عن هوية الأجساد المتفحمة . وتلك سريالية لا يعيشها بلد على الأرض مثلما يعيشها العراق.
المثقفون والكتاب والصحفيون . ما يجري في العراق رزق كتبه الله لهم ، وبراحة واسترخاء يكبتون عن الهم العراقي ، يفسرون ويخمنون وينصحون ويقراون المشهد بالناظور البعيد ، وكأن العراق العظيم الكبير ، ذو الثلاث حضارات الأول هدفا حربيا يرصد بناظور مدفعية فيقرأ حاله وتضع الخطوط العريضة لآماله . يطبعون الرؤى بالآلات ابتكرها من اجل عولمة العراق بيل غيتس إلى صحف الداخل والخارج . لا ليقراها العراقي البسيط ،( الأكثرية الساحقة ) بل ليقرأها مثقف آخر يبني عليها تصورات جديدة ويكتب رؤى أخرى مطابقة أو مغايرة ، أما أن يرسلها إلى صحيفة ، أو يظهر بها على فضائيات الشتات ، يمدح ، يلعن ، يفقه ، ونحن لاهم لنا هنا سوى مفردات البطاقة التموينية وإحصاء ضحايانا ونصب مآتمهم اليومية ومراقبة لجة التظاهرات التي يأمل منها العراقي أن تمنحنا هدأة الليل من نور كهرباء لا تبرمجهُ أنياب الفساد الإداري ، ومياه نشربها غير ملوثة ، وطريق نمشي عليه بسلاسة دون مطبات وحواجز كونكريتية .
لهذا . فالعراق ملك الشاشة من دون منازع . لكنه لا يملك أجرا لهذه الملوكية سوى نفطه الذي تبعثر أحلامه عمليات تفجير الأنابيب وشراء سلاح الشرطة والجيش كي يصنعوا أمنه واستقراره ، فيما بنيته التحتية ما زالت تراوح في مكانها . وصل سعر البرميل إلى اكثر من مئة دولارا في بلد يملك ثان احتياطي من الخزين في العالم ، ولم نر برجا اقتصاديا أو مجمعا سكنيا أو محطة كهرباء عملاقة ، أو مدينة ألعاب لأطفالنا أو مدرسة في كل غرفة فيها جهاز كمبيوتر وتدفئة من شتاء اطل على حقائب أطفالنا بالبرد والوحل والخوف من عابر الحدود الداعشي الذي جاء إلينا ليتغدى أو يتعشى في الجنة .
ولا اعرف متى كان موت طفل أو مرتاد مقهى طريقا لجنة الآخر .
ربما هذا يحدث في العراق فقط بتلك الصورة المشاعة والمتكررة ، ولعمري إن هذا قدر للعراق ما حسب له يوما بهذا الشكل ، ولكنه في القراءة المتأنية وفي تراكم التعسف السلطوي لكل الذين جلسوا على العرش العراقي منذ سقوط أور بسبب حصار الآمورين القساة الذين كانت مرثية أور تقول عنهم إنهم لا يعرفون حتى كيفية دفن موتاهم .
وهكذا صارت حكاية العراق مسلسلا لا ينتهي مثلما انتهى مسلسل ليالي الحلمية وهولاكو والحاج متولي والنسر وعيون المدينة .
غير إن قول جرير الأزلي : أعلل النفس بالآمال ارقيها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
يظل بضاعتنا الحالمة التي نتداولها ، ونحن نأمل منها أن تتشكل حكومة وحدة وطنية ، تقرأ ذاكرة العراق بصبر وشفافية ومسامحة . ليبدأ الزمن الجديد ، الزمن الذي نجعل فيه الفضائيات تتركنا وحالنا نبني العراق بطريقتنا الخاصة . فقلب العراق قلبنا جميعا.