إستثمروا طيبة العراقي بالحق ولا تستفزوه بالباطل
يغلي واقعنا، على شكلين.. الأول ظاهر والثاني مستتر، وكلاهما يطفئان حمم لهيبهما المستعر، في المواطن،… الظاهر مرجل موار بحرائق تملأ مدنا، يحتطبها معول شيطان، يلقي بها حصبا الى جهنم، والمستتر منصهر بركاني في جوف الأرض، قصبته العراق وفوهته المنطقة الخضراء!…
المرجل يتجلى في تظاهرات متواصلة منذ حوالى شهرين، تقابلها الحكومة بردود فعل إحتوائية، إن إنكشف أي خداع فيها؛ فإن ردة فعل الشعب ستكون مدمرة؛ لأن العراقيين رحماء بمن يسالمهم، أشداء على من يتشاطر عليهم إستغفالا؛ فتنشب هستيريا عارمة “يحتار بلمها المد إيده” فأتمنى على الحكومة.. محذراً بود، من مغبة التشاطر.
وسأعطي مثلا بفنانة معروفة، وهي سيدة محترمة، وإستاذة أكاديمية، تقول بأنها نتيجة خطأ إرتكبته سهوا، وهي تسوق سيارتها في شارع عام، إضطر سائق آخر الى صعود رصيف عال، دمر “بجم” سيارته غالية الثمن؛ فنزل لها كالأسد الهصور، يكاد يأكلنها؛ غيظا وغضبا، وهو “يفرغص” نفسه بصعوبة من باب السيارة الذي إنكمش، يتقدم نحوها فائرا يصيح: “إذا ما تعرفن تسوقن ليش تصعدن سيارات.. إبقي بالتلفزيون والمسرح وعينيلك سائق” الى ان بلغنها والشرر يتطاير من عينيه.. محقا، فقالت له: “آسفة خوية” فإنكسر من عمق وجدانه وتحول الأسد الجائع الى غزال ودود: “آنة آسف دكتورة لأن سمحت للغضب يسيطر عليّ”.
عرضت عليه تحمل التصليح، فأبى قائلا: “كلفة التصليح إعتبريها إعتذار مني عن الكلمات غير اللائقة التي بدرت في لحظة كدت تميتينني فيها، لكن كان ينبغي ان اركز على ان الله ستر ودفع ما كان أعظم، ربما إستبدل قدرا…” وإسترسل يلتمس الأعذار لي والتأنيب لنفسه؛ نظير كلمتين تعدان إعرابيا شبه جملة وليست جملة مكتملة: “آسفة خوية” بإتقان ممثلة حوصرت بخطيئة لا عذر لها.
أسوق هذا المثل الجميل، لأؤكد للحكومة، ألا تماطل مع شعب؛ إن نفد صبره، تحول الى السائق اول نزوله من سيارته فوق الرصيف، وإن إسترضيتموه؛ إلتمس لكم العذر، ورفض حتى التعويض، وساعدكم على حل الأزمة.
فكونوا منطقيين، ما دام زمام المباردة، بيدكم، ولو طالت لعبة “المشاطرة” التي تنتهجونها، فلن تحميكم أسيجة المنطقة الخضراء، التي لم تحم الطاغية المقبور صدام حسين قبلكم، وهو أقوى منكم جلدا!
بحرص العراقي الذي يريد لحكومة هيبة يتباهى بها، من خلال المنجزات الحقيقية، أقول هذا الكلام، مثلما أقوله بخوف المواطن الذي يخشى على أبناء شعبه الإنزلاق الى حرب أهلية، بين “الخضراء” والعراق كله بعد ان تحول الى “منطقة حمراء” تلهبها شحة الكهرباء وغلاء السوق وفساد المسؤولين وتوقف المشاريع والخدمات، فلا مستشفى يعمل ولا دائرة تروج معاملة من دون ان تقصم ظهر المراجع.. تدافعا ورشاوى.. شرطي المرور وحرس السيطرات يستفزون سابلة الطريق.. فلوس وسخرية؛ وكلما إشتكى مواطن لمسؤوليهم “داروها عليه” وغرموه مالا أكثر للرتب العليا التي ظنها ستنصفه، وأحيانا يودع السجن؛ لأنه إعترض على جندي سيطرة أهانه من دون سبب!
وتلك حوادث نعيشها مع معارف شخصيين لنا، وهي ظاهرة يومية شائعة، وليست حالة او حالتين، إذ حدث أمام صديق أثق به، ان جنديا في سيطرة، أسمع فتاة “تسوة راسه” كلمة نابية، فركنت سيارتها ونزلت لضابطه، تشكو.. جاء بها الضابط الى الجندي وقال له، بالحرف الواحد، وصديقي يدنو للإطلاع عن كثب: “ألم نقل لكم معليكم بالكحاب” ثم إلتفت إليها.. تحترمين نفسك وتنصرفين لو نقبض عليك بتهمة الدعارة.. متلبسة مع ذاك المتسول”.
أؤكد.. تلك ليست حالة واحدة ولا إثنتين ولا ثلاث، إنما تتنوع عذابات المواطن في الدوائر والسيطرات والمستشفيات، عائدا الى بيت من دون كهرباء ولا مصرف كافٍ؛ فتداركوا الأمر قبل ان ينفلت! إستثمروا طيبة العراقي بالحق ولا تستفزوه بالباطل.
أما الشكل الثاني للغليان، فمستتر تحت قباب مجالس الرئاسات الثلاث.. الجمهورية والوزراء والنواب، صفوا شؤونكم مع الاحزاب التي تعطي اوامرها للوزراء بحلب المواطن كي تمول الوزارة الحزب.
إرصفوا ترهل الأحزاب، في عدد رشيق يحمل مبرراته الفكرية.. دينية معتدلة الى جانب علمانية وليبرالية واشتراكية ورأسمالية وبيئية، تتنافس إنتخابيا بطرق مشروعة، من خلال توسع برامجها التثقيفية، والحد من الأحزاب الكارتونية المنتشرة منذ 2003 بلا ملامح، كلها تضغط على المواطن كي يمولها.
نعاني من تخمة بأحزاب لا مبرر لها.. موجودة بالقوة وليس بالفعل؛ لا تؤدي غرضا جماهيريا؛ إنما تلبي شراهة المال والجاه لدى أعضائها، مستغلة وزاراتها في تمويل الحزب، بالضغط على المواطن، الذي وجد في “ساحة التحرير” سبّاحة يتمسك بها، من غرق في بحر العوز والحنق ومهانة الإهمال.
فلا تدعو السبّاحة تتشبع بملوحة ماء البحر وتتحول ساحة التحرير الى إنتفاضة، وحينذاك ماذا تفعلون؟ هل تلجأون الى “ارض – أرض” صدام حسين، أم تطلبون قوات إيرانية وسعودية وأمريكية وأسرائيلية؛ لحمايتكم من شعبكم.
حلوا المشكلة بتأجيل الشراهة قليلا، والعمل السياسي الفعلي كثيرا؛ لأن هذا من ذاك.. يوم يثور الشعب؛ لن تجدوا مالا ولاجاها؛ فلكي تديموهما؛ إعتنوا بالشعب الذي يوفرهما لكم من ثرواته.
*مدير عام مجموعة السومرية