23 نوفمبر، 2024 10:06 ص
Search
Close this search box.

غنائية الواصف و واقعية الوهم والإمكان

غنائية الواصف و واقعية الوهم والإمكان

قراءة في رواية ( ذكريات معتقة باليوريا) لعلي الحديثي
أن القارىء لتجربة رواية (ذكريات معتقة باليوريا)للروائي علي الحديثي لربما يمكننا ملاحظة حجم مؤشرات العبارة التوصيفية الغنائية بإفراط مبالغ به الى حد الإسراف النسقي و الأسلوبي في سيرورة دليل مقومات تشكيلية ذلك الزمن التمثيلي المرهون داخل أسوار تابوات الزنزانة الأمريكية و كيفية دلالة أن يحيا الأنسان المثقف بكل أبعاد شاعريته و حسه المرهف داخل جملة تفاصيل كابوسية يومية تتخللها هالة كبيرة من الأسترجاعات لحالات الأشياء الذاتية داخل صومعة تلك الساحات و الكرفانات و المخيمات و الأصوات و القلق و الحرمان المتواجدة في شرنقة الأخطبوط الأمريكي . أن القارىء لرواية علي الحديثي لربما يعاين مستوى شعوري خاص من أفق دائرة تنصيص الدليل المادي المظهر بالوهم و الإمكان داخل حيز إنتاج شريط دلالات المعنى التصوري الملفوظ من جهة تخارج أجزاء وصولية و تقطيعية من العوالم السردية الى شكل دورات لحظوية مبعثها ذهنية الإدراك الى ما هو واقعي وحقيقي و وهمي .. هكذا يمكننا القول حول فصول و مشاهد رواية الحديثي ، أي إنها

مجموعة تصورات مجسدة في مخيالية دليل الواصف الذي يقوم بتسجيل الأشياء من حوله بموجب سردية غنائية مفرطة لحد وصول أمرها الى تشتيت هوية الصناعة الواقعية في مادية الحركة السردية في شكل الرواية ، وصولا الى جملة تحقيقات حدثية تبتعد كثيرا عن محيط متانة تلك الإسترجاعات و الأحداث التي كانت تدور نقلا على لسان السارد .. بعبارة مختصرة إن القارىء لربما يشعر إن ما كان يقرأه من أحداث سردية و كأنها مجموعة إيقاعات غنائية مستعادة أخذ يجتهد من خلالها كاتبها بتزويقها و زخرفتها الى حد انتفاء لغة و واقعية ذروة تلك الأحزان الحقيقية التي مر بها الروائي أو السارد أو الشخصيات القابعة في تلك المعتقلات ، إذ أنها تبدو من جهة أكثر أهمية عبارة عن خطاطة وصفية لمعزوفة إفتعال الحزن و الدموع و القلق و الانتظار السريالي ، فيما تبدو حالاتها في أقصى شكلية الألتباس و الأشتباك النفسي و العاطفي المغاير لماهية حقيقة واقعة الظرف المكانية و الزمنية و الذاتية و الموضوعية .

( الفضاء و لغة تحولات المحتمل التوقعي )

إن معظم الأمكنة و الحوادث و الشخصيات التي قرأناها في رواية الحديثي ، للأسف لم تكن خاضعة لناموس التطور النوعي المجرد في عوالم أبنية السرد الروائية المتقنة حداثويا

بل أنها جاءتنا مسرودات في أطر محفوفات تكرارية مجترة لا يفصلها عن بعضا البعض سوى حجاب نوعية ( المكان / الكلام / التنقل ) بيد إن كل تحولات المكان كانت في معظمها لا تحفظ للسرد الروائي أدنى درجة من علامات نمو التصاعدية في مسار الإستجابة الذروية المتوقعة مع مرور احتمالية تلك الأزمنة الراقدة في دليل هوية السارد و شخصيته الروائية : قد يسأل القارىء نفسه وهو يتابع مجرى مسار النص الروائي ؟ أي المقاصد الوظيفية و الدلالية كان يقصدها الحديثي من وراء حكايات معتقله الغنائي ؟ أهي مجرد خطاطة حكائية شخصية من مهامها الأولى هو سرد مذكرات الكاتب و حكاية تلك الرجال إزاء في المعتقل وهم إزاء خوفهم وقلقهم و ذكرياتهم مع ديمومة تحركاتهم البانورامية في مسافات حقيقة هواجسهم الهلامية : ( في صومعتي المعلقة في سطح بيتي أغلقت الباب ورائي بطريقة كأني أغلقه بوجه العالم و أنا أقول له : انتهت ساعاتك معي فارحل الى حيث تشاء فلا شأن لي بك .. و بوقفة المشتاق وقفت أمام حبيبتي ) بالرغم من لجوء الذات الشخصية الساردة في تفسيرها للظاهرة الواقعية على أنه يحيا داخل مجالات تحديد العزلة الجميلة مع عالم مكتبته و قراءاته . إلا إن هذا الأمر ماهو إلا محاولة الى الدخول في تفاصيل كابوسية الرحيل عن أجواء العائلة وعن حيوية الانتماء الحقيقي مع مدلول الحياة بشكل اكتسابي مستعاد . لهذا المدخل في الرواية نعاين ثمة ظروف غريبة في عملية اعتقال الشخصية و في حدود أخذت تبتعد عن مفروضية

حصيلة المصداق الموثوق بتفاصيل تلك الواقعة السردية في الرواية : ( لم أطل الوقوف أمام حبيبتي اللا مرئية الكهرباء أصدرت قرارها في محكمة الظلم القطعي بالنوم بلا تمييز ولا رجعة .. لا شيء يتحرك .. العدم قد حل في كل شيء إلا رمشي و أحداقي التي تنتقل في متاهات الظلام .. في سقف الغرفة .. في ستائرها .. في بابها المغلق .. أبحث عن منفذ صغير أطل منه على اللوحة الربانية التي رسمتها يد الأقدار متعة للناظرين ) فالحديثي في صنعه لأجواء تصوراته العتباتية في تمام مستهل حكاية النص ، لم يتيح لملامح أحداثه في النهوض لوحدها بنائيا ، بل أننا وجدنا الأحداث لديه تسير على نحو وصفي شديد و كأنها أحلام حدوسية على أرض الخيال الشخصي حصرا . فهيمنة شعرية الوصف الأستعادي في فضاء حكاية النص لربما من شأنها زهق موضوعية الواقعة السردية و ما تحمله من أدوات جوهرية سببية في ديمومة روح الأحداث : فأنا شخصيا لم أكن أشعر بحجم تلك الأحزان و الهموم التي كانت تمر بها الشخصيات في الرواية لسبب شعوري أنها مجرد تواصيف حلمية راح يتحذلق من وراءها الروائي من هنا و هناك و على نحو تكراري مقيت و ممل : ( أخذ النعاس يتسلل الى عيني.. أفز بين الحين و الآخر عسى أن تأتي الكهرباء لأعود الى حبيبتي .. أغفو ثم أفز ) فالسارد الشخصية يوغل في توكيد الحالات الشعورية و الحدثية الى درجة تبيح للقارىء فعل التكرارية و الخروج من فاعلية جوهر وقائعية التكوين الأنطباعي السليم في رسم أيقونة الحياة الداخلية

للشخصية الداخلية وما تشعر به من مصداقية ما في مسار بوتقة الحالة الموضوعية ( لم تزل الظلمات سيدة الموقف .. الأصوات تشتد في أذني ظننت أنهم مجموعة من الشباب يمرحون وهم يمرون من تحت شباك غرفتي . فلا شأن لي بهم كعادتي .. أغفو ثم أفز .. الأصوات تعلو .. تقترب .. أغفو ثم .. أقفز من فراشي مهرولا نحو الباب فأنا أعرف الطريق وسط الظلمات .. عندما سمعت صوت انفجار قوي .. أو هكذا ظننت .. فتحت باب الغرفة فإذا بالأصوات تقترب مني بل أنها في بيتي ! ) أن مشكلة الروائي علي الحديثي في بداية روايته أنه لم يقرر صنيع الأشياء العقدوية بطريقة محبوكة كمادة من شأنها أن تظهر السبب و تعرض المسبب بشكل تمهيدي مترابط و مقنع : فما معنى كل حلقات رؤية ذلك الاعتقال أصلا ؟ و ما معنى حالة ظهور الأشياء في الظلام تحديدا و ما معنى أيضا حكاية ذهاب الزوجة و الأطفال في هذه الليلة تحديدا ؟ كما لا أرى أنا شخصيا ثمة ضرورة لمثل هكذا تصدير أولي قد جاء في بداية الرواية

( أنا أحب زوجتي فلا تسيؤوا الظن بي / كنت أفرح فرحا شديدا عندما تأخذ الأطفال و تذهب الى بيت أهلها لأخلو ــ لاسيما في الليل بحبيبتي .. أداعب جوانبها .. أضمها الى صدري .. أمسح عنها تراب الإهمال ) لقد حاول الروائي الحديثي بصعوبة واضحة تمويه قارئه بإظهار ثمة علامات وحالات من المفارقة الفنية ، غير أنها للأسف جاءتنا بلا إيقاعية تشويقية خاصة وبلا إيحائية مؤثرة و بلا مقصدية

دفينة في زمن بلا حوافز بؤروية حقيقية حيث أنها باتت في الأخير لا تشغل سوى نقطة أرتكاز مفتعلة و غير فاعلة في مستوى تركيب أفتتاحية تركيب الخطاب السردي في الرواية . غير أنها من جهة ما سارت بها الأحداث و الأصوات و المعتقلات و الاقحامات التكوينية و الفنية و العلائقية في مواقع وظائف عديدة في مخطط صنيع الرواية ، أو لنقل بصيغة صريحة و مباشرة أنها رواية غير مترابطة و متلاحمة في مسببات حدوثها البنائي و الشكلي و المتني . و يمكن القول الشيء نفسه في مواقع حوارات الشخوص و الأمكنة و الأسترجاعات الزمنية .

( آليات أسلوبية الوصف السردي )

لعل من أكثر السمات الجمالية في رواية ( ذكريات معتقة باليوريا ) هو تكثيف اللحظات الشعورية لدى الشخوص و تمييزها بهالة صورية تتعالى عن مجرى بناء الحدث السردي و الموقف البديل وجملة الأستدعاء الخارجي في جدل خطية المغزى الروائي المؤول . بل أننا في الواقع وجدنا بعض حلقات صورة الرواية تنبني بموجب لسان الفضاء الساردي و الوصفي و دون حلول مأزق سلطة النسيج الروائي ككل وصولا الى لغة شرنقات الوصف و الانحياز الى واقع ( الحلم / الأمل / المقارنة / التفاوض

الذاتي ) أن الأندماج الجوهري في حصيلة مواقف رواية الحديثي أخذ يتعلق بخطابات السارد وهو يسعى الى معرفة ما أذا كان العقل و الخيال و الوعي هو المحكم الأوحد على بلوغ طبيعة وحشية الأشياء كنوع من التفاهم التتابعي الذي ترجع تعقيداته الى طبيعة واقع الزنزانة و ارتباطه القسري بها : ( لم أكن أدري كيف نمت وسط صرخات الأسئلة الميتة ما كانت الفوضى تهدأ و أنا أسند رأسي الى الوسادة .. لابد من قتل الساعات التي تحول بيني و بين لحظة المواجهة فلم أجد كالنوم من له قدرة الجبارة على قتل الزمن .. أرتديت بدلة الاعتقال الصفراء وقد تراكمت مشاعري بعضها فوق بعض بعدما زلزلت تلك اللحظة كل ركود كنت أحاول ان اصطنعه في داخلي .. فمنذ سمعت برقمي للمواجهة و أنا كمن يركض معصوب العينين في مكان يجهل مداخله و مخارجه .. كانت وجوه أهلي ترسم في مخيلتي صورا متناثرة .. وصفونا في ساحة صغيرة مبلطة محاطة بالجدران المشبكة ) من الحقيقي أن نعرف أن تجربة رواية علي الحديثي راحت تحدث في نطاق ( شعرية الواصف + حلمية الواقع + شكل تدوير + دائرة وقائع ممكنة + أنا الآخر + مرجعيات الذات + خصوصية وجهة نظر + الاستبيانات الأختبارية + توصيلية تكون أكثر تأثيرا + إيقاظ التعارض = ذكريات معتقة باليوريا ) و عللا وفق هذه المخطوطة وبهذا المقدار من الأنطباع صار لدينا مجالا لا يمكننا تجاهله أو الأنزواء عنه ، أي أن تقويمات رواية الحديثي ، ما هي إلا خطوات كشوفية تسعى جاهدة لكشف ما تراكم في جوهر

ظلام الواقع من معطيات خبيئة و وحشية ليتسنى له تقديمها في شكل صورة توصيلية سردية تكون أكثر تأثيرا في الحس و العقل و الوهم و الأمكان ، دون أن تتجاهل عن إجرائية حقيقة الأنزواء عنها سرا كتصورات تزيد من حركية أنقاذ النموذج الأنساني و قضاياه المركونة في زوايا معطيات الوهم و النسيان و الضياع .

( تعليق القراءة )

بعد أنتهاء زمن قراءتنا لأحداث رواية ( ذكريات معتقة باليوريا ) أدركنا بأن هناك علاقة جدلية بين الشخصية الساردة وفضاءها الذاتي و المكاني و الزمني و المرجعي ، حين يتحول هذا الفضاء من حيز الأخبار الى موقعية الواصف المراتي العاكس لمشاعر تلك الشخصيات و الأشياء و الحالات في مومياء المعتقل .. رغباتها و آمالها القلقة التي باتت تصارع داخل أمكانية شرنقة ذات الشخصية الناقلة و الساردة ، و بذلك أخذ يتلون الفضاء الروائي داخل تمظهرات البيئة الزنزانية الى محض لحظات متوترة بين زمن دواخل الشخصية المركزية و بين مشهد صراع الصوت والصمت و بين مشاهد إبطاء حركة السرد في الرواية حتى تتساوى مع زمن سرد الواصف وهو يطرح انطباعاته كفعل ارتكازي

لمسببات حدوث الأشياء وظواهرها التشخيصية الناشطة في مرايا الوهم و الإمكان .

أحدث المقالات

أحدث المقالات