يتذكرُ الناس من أهالي مدينة الناصرية ومدن العراق أيام الستينيات والسبعينيات تلك اللوحة المعدنية الموجودة على كل محل لبيع المواد الغذائية والمنتشرة في محلات المدينة ومنطقة الصفاة والتي كتب عليها وزارة التجارة ــ مصلحة المبايعات الحكومية ــ رقم الوكالة ( 0 ) .
وكان الوكلاء يستلمون حصصا شهرية من السكر والشاي والدهن النباتي ( الحشايش ) من مخازن الوزارة وبالتساوي ، وبعد تأميم النفط وتطور الاقتصاد العراقي وارتفاع الدخل المادي للفرد اصبحت مصلحة المبايعات الحكومية تستورد عصير الراوخ النمساوي والعصائر الايطالية والزيتون اليوناني واللحوم المعلبة ايضا وكان يوزع ايضا على الوكلاء كل شهر.
في بداية حكم الرئيس عبد الرحمن عارف عاش العراق ازمة شديدة في شحة السكر والشاي والزيوت . فتم تقنين توزيع المواد الغذائية ومنها السكر والشاي والزيت وتوزيعها عن طريق الوكلاء من خلال قسائم الماء والكهرباء ، فكانت طوابير الناس تقف على ابواب دكاكين الوكلاء تفتش عن اسماءها في القوائم حسب المحلات واسماءها.
كانت الازمة لشهرين ولكني استذكرتها مع شغاتي عامل الخدمة في مدرستنا الواقعة في واحدة من قرى الاهوار حين تفاجأت بلوحة مصلحة المبايعات الحكومية معلقة على شبة القصب في باب بيت شغاتي .
ضحكت وقلت ما هذا :انا اعرف أن عطار القرية يأتي بمشحوف بين حين وآخر ولا اعرف انكَ عامل المدرسة وعطار قريتها.
قال :نعم انا الوكيل ولكن الدولة توقفت ان تعطينا الكمية بحجة اننا لا نملك دكانا نظامياً فعندما أتت اللجنة لتكشف على المكان لنجدد الوكالة كتبوا في تقرير الاجازة :المكان لا يصلح كونه صريفة وليس دكانا ولا يتوفر مكان مناسب لخزن المواد الغذائية القابلة للتلف.
قلت : وكيف حصلتم على الوكالة اول الامر .؟
قال : في ازمة التموين التي حدثت قبل اعوام . كدنا نموت من الجوع لأن توزيع الحصص الغذائية عن طريق الوكلاء لم يشملنا لأننا لا نملك في بيوتنا عدادات ماء ولا كهرباء ولم تكن تأتينا قوائم فنحن محرومين من نعمة الكهرباء والماء الصافي فبتنا نشتري هذه المواد بأضعاف سعرها ولأول مرة في حياتنا عرفنا شيئا اسمه السوق السوداء، والفقراء منا صار صباحهم حليب الجاموسة وغدائهم الخريط وعشاءهم اللبن الخاثر .
عندها قررنا تشكيل وفد من قرى المنطقة وذهبنا لمقابلة قائمقام الجبايش وعرضنا شكوانا وبدوره كتب الرجل الى المتصرفية في الناصرية التي كتبت الى وزارة التجارة فوافقوا على منحنا وكالة واحدة لمصلحة المبايعات ، وانتخبني الناس انا ليكون الوكيل وكنت اذهب كل شهر الى الناصرية استلم حصلة قريتنا والقرى المجاورة .
عام واتت لجنة فحص الدكاكين وتم ألغاء الوكالة ولم يبق سوى هذه اللوحة.
سنوات ولوحة مصلحة المبايعات الحكومية على شبة باب شغاتي وكلما اراها اتذكر محنة الناس في ايام التموين واقارنها ببطاقة التموين ايام الحصار لكن الفرق أن محنتنا في زمن عارف استمرت لشهرين فيما محنة الحصار استمرت لثلاثة عشر سنة …..!