ليست المصيبة وحدها ما يفجع، فصمت الاصدقاء هو ما يعلق في الذاكرة اكثر من كلمات الاعداء، حين تنتهي المصيبة وتتحول الى مادة تاريخية، او سرادق عزاء يتفنن السادة فيما بعد بعرضها ضمن بوستراتهم الانتخابية دليلا على تهميش العوام ومطالبتهم بحقوقهم، ستخلد في ذاكرة جموع الناس تلك المواقف البسيطة في ادائها والعظيمة في مضمونها…
اليوم فاجعة تشبه فواجع الامس وماسبقها، هي ليست جديدة اطلاقا في قاموس الدم، بل مجموع ارقام تتناقلها الفضائيات كأنها خراف جزت في مذابح اعيادهم المجيدة، ثم ما تلبث الا وتحدثنا في جلسة طرب عن معنى الحياة والحب لباسلات تتقاطر وجوههن بكل شيء عدا الحياء.
هؤلاء القتلى في (جميلة) وسواها، هم ليسوا من سلالة الدم الازرق، ليسوا من اصحاب المسؤولية، او الرفعة والسماحة, ليسوا سوى بطاقات انتخابية ترفع من لا شأن لهم سوى المتاجرة بدماء الابرياء والاعتياش على اموالهم وحقوقهم! لذلك لن تعطل الفضائيات برامجها، لن تحزن، لان احدا من هؤلاء لا يعرفه العالم سوى كونه عامل او حمّال او صاحب بسطة او او، هو ليس مسؤولا مات بعملية جراحية في مستشفيات لندن او اوتاوا، لنبكيه جميعا، هو ليس سوى امتدادا لتلك الدماء التي تزف صباحا ومساءا بطوابير التوابيت المحمولة على اكتاف الفقراء الى ذويهم واهلهم..
هل يعلم السيد رئيس الجمهورية، او السيد رئيس الوزراء بحجم تلك الفواجع؟ هل قتل له عزيزا في معركة ما، او مات في تفجير سوق شعبية حين يجر عربة هي بحجم ذنوب الساسة وسواءاتهم؟ هل يعلم السادة طعم الموت وفراق الاحبة؟ او قل هل يملك الساسة قلبا وشعورا يناصف الاخرين هموهم؟
في تفجير جميلة لا شك، ان العالم لن يعير اهمية، لاننا لا نعرف ان نوصل صوتنا وحجم مآساتنا للعالم، ربما يكون وزير خارجيتنا مشغولا بالبحث عن مكان يلائم سفارة الجارة السعودية، او يكون سماحة السيد فلان مشغولا بزيارة قطر، او دولة صاحب المعالي في ايفاد رسمي للصين، او فلانا يحج الى طهران!! فلا يعلم احد منهم ما حصل! لانهم باختصار لا يعيشون معنا، لا يفهمون ما نقول ولا يقرأون ما نكتب, ولا يستطعمون ما نأكل ابدا، انهم في عالم لا يشبه عالمنا، والشعور والاحساس لا يشترى انما هو كرامة بشرية يهبها الله حتى لحيواناته، ولا ادري من اي صنف هؤلاء.
بائعوا جميلة وعمالها وحمالوها ومتسولوها كلهم من طبقات الشعب التي تعيش على هامش الحياة، قد لا يملك كثير منهم اجهزة نقال ليتصل بذويه او يتصل ذويهم بهم، هم لا يطمأنون على بعضهم البعض الا حين يعود الاب منهكا فيكون والشمس توأمان كما يقول الشاعر، حين ينزع قميصه تغرب الشمس، نعم قد لا يعرفون سبيلا الى قتلاهم، وربما هم من محافظات اخرى جاءوا ليكتسبوا لقمة تسد رمقهم، ينامون على الارصفة ليلا ولا يعودون لذويهم الا حين يجمعون بعض ما يسرون به عيالهم، وهم لن يعودوا، سيتحول اطفالهم بالتأكيد الى متسولين في تقاطعات الطرق، فيتكرم الساسة فيما بعد بادراجهم في منح الرعاية وعوائلهم ليأتي من يأتي ويسرقها منهم!!
منظر مبكي ذلك الذي عكسته فضائيات العالم عشية تفجير حسينية في الكويت، ليس عظيم المأساة وحدها، بل دموع امير الكويت التي نزلت على جراح ذوي الضحايا كالبلسم وكلماته الاعظم وهو يردد “كلهم عيالي”، ومن وراءه وزير الداخلية الذي فزع دون “عقال” وعكسته صور الفضائيات وهو يهرول ومن خلفه مرافقيه!! فاي وجدان يملكه هؤلاء واي وجدان نملك نحن؟
هل لي ان اتصور ذات يوم ان يقف رئيس الجمهورية وسط جموع القتلى وهو يندب ويبكي وينادي “كلكم عيالي” لا فرق فليرددها بالكردي ان كان لا يجيد العربية، ليقلها بسره ان كان يخشى ان يخدش مشاعر القاتلين…. هل لي ان اتصور وزير الداخلية بلا رباط عنق فرنسية وهو مصطحب ولده واخويه الى مقر الحادث ليقول لنا هؤلاء فداء لقتلاكم!! ثم هل لي ان اطمح اكثر واتجرأ بان احلم ان توقف قناة العراقية الفضائية بثها للحظة فيعزي مديرها اهله وذويه في لندن بفاجعة سوق جميلة، ثم يؤشر لابناءه وابناء السادة المسؤولين وللسادة المسؤولين ذاتهم على الخريطة ان تقع جميلة، وان يكون مستنقع الفقراء، ويعرض على جنابهم ما يشبه الفيلم الوثائقي عن سيرة هؤلاء وحياتهم اليومية، بما يشبه وثائقيات احراش افريقيا والامازون!!
اي كرامة لهؤلاء، واي دم تسري بعروق هؤلاء المسؤولين؟
بل سنشاهد في غد وببساطة شديدة، كثير من الساسة من يطالب حقوق الانسان ان تقف صف القاتلين رأفة بعوائلهم، وان لا نكرر فاجعة ان نقتل انسانا ونضيّع فرصة اصلاحه، ثم يستجيبب القضاء لذلك فيخفف الاحكام وينام قاتلوا الفقراء في سرادق مبردة ونعيم مدام، فيما يظل ابناء هؤلاء بايديهم الممدوة في التقاطعات تحت حرارة الشمس اللاهبة، تلك الحرارة التي لم ترفع غيرة الساسة حتى وان وصلت الى درجة الغليان. لكن الذاكرة كما اسلفت القول قد لا تحتفظ بكلمات الاعداء، بقدر احتفاظها بمواقف الاصدقاء، ومثلما سيحفظ التاريخ لامير الكويت كلمته الرائعة (كلكم عيالي) سيحفظ لنا خزي الكلمات القميئة لساستنا، حين يصفون هؤلاء وذويهم واخرين من ابناء جلدتهم حين يطفح بهم الكيل ويطالبون بأقل حقوقهم بأنهم “فقاعات” او “مندسون” او “مأجورون لاجندة خارجية” او سواها!!