لم يكن ماحدث في الأيام السابقة من انفجار صبر العراقيين وخروجهم عن نطاق التحمل جديدا او غريبا حدوثه، بل هو أمر متوقع بما لايقبل الشك، لاسيما بعد أن طفح الكيل بالمواطن المسكين، من جراء مايراه ويعيشه من سلب لحقوقه، وغبن لحقوقه وغمط لمستحقاته في بلده. فبعد عقود الجور والقمع والبطش.. والحروب والحصار والحزب الواحد والقائد الأوحد وأزلامه، حل علينا عام 2003 فكان به -على ما ظننا- الخلاص من تلك السنين، ولو أن الخلاص من مفردة الدكتاتورية جاء مشوبا بمفردة الاحتلال، فبتنا كما يقول الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
ومع هذا وذاك وبتحصيل حاصل فقد أنعم علينا العم سام بتخليصنا من ذاك الكابوس..! ولو أعدنا النظر الى ماكان يحمله الكابوس من أضغاث أحلام، للمسنا أن هناك صراعا مريرا على مدى أربعة عقود، دارت رحاه فطحنت الشيب والشباب من أبناء البلد، وكان طرفا المعادلة معلومين، وبالإمكان تسميتهما والإشارة اليهما بكل بساطة، فالطرف الأول هو صدام، أما الثاني فهو الشعب. وبهذه المعادلة تدنى مستوى البلد الى أدنى المستويات بين الأمم والبلدان، فساد الجهل والأمية والفقر، كذلك الفساد بمفرداته المالية والإدارية، والجريمة هي الأخرى ارتفعت معدلاتها بشكل خطير قياسا الى باقي الدول، وكان سلاح القمع والبطش والموت والنفي هو مااتبعه النظام الفاشي البعثي لقمع الصوت المعارض، ووأد التظاهر والمطالبة بالحقوق.
اليوم بعد مضي اثني عشر عاما على انقشاع الطرف الأول/ صدام.. كذلك انقشاع النظام بحزبه الدموي النازي، وأزلامه ومجرميه وأدوات إجرامهم، من المفترض أن يلمس الطرف الثاني/ الشعب.. انفراجا في كل تفاصيل حياته، ويشهد البلد الذي كان يئن تحت نير الدكتاتور وسياط حزبه الفاشي، انبثاق فجر جديد لحياة مشرقة بعيدا عن الاضطهاد والتمييز، لاسيما وقد تغير الحزب والقيادة والوجوه، كذلك تغير لدينا نمط الحياة السياسية، حيث يشير المواطن الى الشخص المناسب بسبابته لينتخبه ويضعه في المنصب المناسب. لكن واقع الحال عكس غير ماكان مؤمل، فتلاشت الآمال بعين المواطن شيئا فشيئا على مر السنين الانتي عشرة العجاف، بعد أن اتضح له زيف الشعارات التي رفعها أشخاص، رفعهم الى مناصب مرموقة وسلمهم وكالة (عامة مطلقة) بحاضره ومستقبله وثروات بلده، فكان الخذلان حصيلة ماحصده في تجربتين انتخابيتين مضت من عمره وعمر العراق. واليوم هو يعيش مرارة تجربة انتخابية ثالثة، أساء فيها اختيار المكان المناسب بوضع علامة صح، فكان اختياره غير ملائم بتاتا من حيث يشعر او لايشعر، إذ خذلته مصداقية المرشحين الذين جاهد في انتقائهم، رغم تغييره شيئا من المواصفات التي وضعها على مقاساتهم، وهو اختبار ومحك لهم، يتبين فيه معدنهم ان كان خالصا او صدئا.
وما زال دأب المنتخبين خذلان ناخبيهم بما استطاعوا من خلال منصبهم ومكانتهم في سلم الوظيفة والمسؤولية، وهذا ديدن رؤساء الكتل وزعماء الأحزاب، في مسيرة المليون ميل في العملية السياسية، والتي لاندري متى تبدأ الخطوة الأولى بالاتجاه الصحيح فيها، إذ ان اثني عشر عاما غير كافية لتصويب الخطى وتوحيد الرؤى، حيث بات مانراه من تقدم في المسير بضع خطوات، يعقبه تقهقر فيها وفي اتجاهها أضعافا مضاعفة. وبلغ ما يتفتق من رحم ساستنا من خروقات بحق الوطنية والمهنية فضلا عن الإنسانية والأخلاقية، حدا يصعب معه التصحيح والتصليح، فما يقابله من حلول خجولة لاتكاد تصيب من عين النجاح ومرمى الفلاح إلا بقدر مايصيب الأعمى مرماه. ولعلي أصيب إن شبهت حال ساستنا في المشاكل وحلولها بمثلنا الدارج: (الشگ چبير والرگعة صغيرة) والأمثلة في هذا كثيرة لايحتويها عمود او صفحة او عدد من صحفنا. ويبدو ان مثلنا القائل؛ (الإيده بالثلج مومثل الإيده بالنار) ينطبق تماما على مايحدث في الهوة الكبيرة التي تفصل بين قبب مجالس البلد الثلاث، وبين المواطن المسكين الذي وضع يد الانتظار على خد الصبر الذي طال ونفد هو الآخر، وتداعى في ساحات التحرير الى صرخات لن تسكت حتى تنتهي مأساة هذا الشعب الجريح.