لا اعتقد ان هنالك أغنية تشيع الفرح والسرور في النفوس مثل أغنية المرحوم عندليب الشرق عبد الحليم حافظ ” وحياة قلبي وافراحو”. و لا يحتفل اي شاب وشابة عربية بالنجاح في دراستهم الا وكانت هذه الاغنية الخالدة في رأس الأغاني التي تُغنى في حفل التخرج او الابتهاج بالنجاح في المدرسة او الجامعة .
وقد غناها عبد الحليم حافظ لأول مرة في فلم الخطايا (١٩٦٢) وقاسمته البطولة الحسناء آنذاك نادية لطفي . الأغنية من كلمات فتحي قورة وألحان منير مراد ( شقيق ليلى مراد) . كان الفن العربي في تلك المرحلة في أوج ازدهاره في الغناء والسينما والمسرح وقد ازدحم المشهد الفني حينها بعمالقة الغناء العربي اداءً وتلحينا وشعرا . انه امر يبعث على الدهشة فعلا انه في نفس الفترة كانت هناك ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ورياض السنباطي وبليغ حمدي وأحمد رامي وإبراهيم ناجي والقائمة تطول وتطول . كل هؤلاء العظام وآخرون جاد بهم الزمان دفعة واحدة في عقدين من الزمن خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي .
لقد بدأ محمد عبد الوهاب وأم كلثوم مشوار الفن منذ العشرينات ولكن المناخ الفني والعلماني الملائم كان كالحاضنة التي فقست بقية الفنانين الكبار في مصر في الفترة التي تلتها كما أسلفنا . ان الإيمان بالعلمانية كان منهجاً في زمن الملك فاروق وازدادت وتيرة ذلك في عهد جمال عبد الناصر الى ان وقعت القطيعة بينه وبين الاخوان المسلمين . يذكر المرحوم عبد الناصر ان مرشد الاخوان المسلمين قد زاره وطلب منه رسميا ان يصدر قانونا يجبر فيه المرأة المصرية على ارتداء الحجاب فأجابه عبد الناصر بذكاء وسخرية ان المعلومات التي لديه تشير الى ان ابنة المرشد هي طالبة في كلية الطب وهي سافرة غير محجبة فكيف تطلب ان نقوم بفرض الحجاب على الملايين من السيدات المصريات وانت غير قادر على فرضه على ابنتك . هذا هو ديدن الفكر الديني المتعصب الذي يتدخل في الحرية الشخصية للإنسان ويفرض قيوداً على حرية الفكر والفنون . لم يكن الفن المصري العظيم ليزدهر آنذاك لو ان عبد الناصر انحنى امام مطالب الاخوان المسلمين .. فلم تكن تمضي برهة الا ووجدتهم يتدخلون بكل صغيرة وكبيرة في شؤون الدنيا ويسحبون سفينة الحياة الكبيرة الى القنوات الضيقة بدل ان يدفعوها الى أعالي البحار الرحبة وما تجربة مصر الاخيرة مع الرئيس المخلوع مرسي والإخوان المسلمين الا خير دليل على ذلك . انني لست بصدد تقييم التجربة الناصرية فأن لها سلبياتها ولها حسناتها ولكني وددت فقط ان أشير للدور الإيجابي الذي يلعبه القائد العلماني في رفعة الفنون في بلده اذا كان عقله متفتحا وكان مؤمنا بالأساس في الأثر الرائع الذي يتركه الفن الأصيل في حضارة اي شعب .
ان للقائد في دول العالم الثالث على وجه الخصوص دور كبير في رفد المسيرة الفنية بأسباب النجاح و الرقي بالفنون ورفعها الى مرتبة عليا كي تحاكي وجدان الشعب . لقد حضر جمال عبد الناصر وبمعيته عبد الحكيم عامر احدى حفلات ام كلثوم الشهرية والتي غنت فيها أغنية أمل حياتي . كما ان اللقاء المرتقب بين لحن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب و صوت كوكب الشرق ام كلثوم لم يحدث لأكثر من ثلاثين عاما لولا إلحاح عبد الناصر في عامي ٦١ و٦٢ على الطرفين الى ان ولد لقاء السحاب كما كانوا يصفوه في المعجزة الغنائية “انت عمري” التي غنتها ام كلثوم في فبراير ١٩٦٤ . ثم استمر السيل الهادر من التعاون الفني بين العملاقين في اغاني اخرى مثل “أمل حياتي” و “أغدا ألقاك” و “ليلة حب” و “أصبح عندي الان بندقية” وغيرها من الاعمال الخالدة . ان الاهتمام بالفنون في مصر من قبل الرؤساء له جذور ، فقد امر الخديوي اسماعيل ببناء دار الأوبرا خلال ستة أشهر في عام ١٨٦٩ لاستعمالها في احتفالات افتتاح قناة السويس ودفع مبلغ ١٥٠ ألف فرنك من الذهب الى الموسيقار الايطالي فيردي لإنجاز أوبرا عايدة التي تم تقديمها في دار الأوبرا المصرية عام ١٨٧١ .
عزيزي القاريء الكريم هل بإمكانك ان تتخيل احد معممينا او سياسيينا في العراق من المنضوين للخط الاسلامي والذين يمسكون بمقاليد الأمور في هذا الزمن البائس .. هل تتخيل احدهم يحضر حفلا فنيا او يروج لفن رفيع .. أني أشك بذلك لأنهم ببساطه منشغلين بتهيئة اتباعهم لثقافة الموت والتهيؤ لملاقاة حور العين اذا كانوا من “ذاك الصوب” او استحداث مفردات ودواعي جديدة لثقافة الحزن والبكاء واللطم على فاجعة حدثت قبل ١٤٠٠ سنة اذا كانوا من “هذا الصوب” ، فمن أين لهم وقت للاهتمام بالفنون وانتشال الشعب المسكين من هذا الحزن المزمن الذي يطحن الأبدان والنفوس .
في مداخلة مع احد الأصدقاء على احد مواقع التواصل الاجتماعي حين اخبرني مازحا انه بعد ان قرأ مقالا كتبته عن شيوع الحزن والخوف من الفرح في الشخصية العراقية انه مع ذلك وجد نفسه يردد أغنية “افرح يا قلبي” لام كلثوم فأجبته قائلا لو كان الامر بيدي لجعلت من أغنية عبد الحليم حافظ ” وحياة قلبي وافراحو” نشيدا وطنيا للعراق… أقول ذلك لعله يزيح ستائر الحزن السوداء التي تمنع شمس الفرح من الولوج من شبابيك الأمل فتعود البسمة الى وجوه العراقيين الطيبين .
[email protected]