في الوقت الذي يتعرض فيه الإقليم إلى حرب شرسة من منظمة إرهابية تحولت إلى دولة إرهابية بفعل سيطرتها على محافظات عراقية وسورية كبيرة وأسلحة عدة فرق عسكرية هائلة في كل من الجيش العراقي والسوري، وتصدي قوات البيشمركة لها وتحطيم أسطورتها في الرعب وطردها من أكثر من 90% من أراضي كوردستان العراق، تندلع على حدودها الشمالية عمليات عسكرية عنيفة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكوردستاني، والتي اخترقت في كثير من صفحاتها أراض الإقليم جوا وبرا، مستخدمة أسلحة ثقيلة كالمدفعية والطائرات وأدت إلى استشهاد العديد من المواطنين الكوردستانيين المدنيين من سكان الحدود، إضافة إلى جرح أعداد أخرى وتهجير الكثير من العوائل من مناطق الالتهاب الحاصل بين الطرفين، ورغم ما يتمتع به الإقليم من مشروعية الرد بالمثل وإمكانياته العملية على ذلك مع تواضعها، الا أنها تربك العملية برمتها لو أنها استخدمت كرد فعل غير محسوب، وقد خاطب الرئيس مسعود بارزاني مع أولى ساعات التصعيد الأخير الطرفين إلى الإذعان للغة السلام والحوار والمفاوضات قائلا لهم إن سنوات من المفاوضات والحوار أفضل من ساعة حرب واحدة وطالبهما بإيقاف العمليات الحربية.
لقد تعاملت قيادة إقليم كوردستان وما تزال مع معظم هذه الإشكاليات بمرونة معهودة بالحكمة والتأني وحسابات بعيدة المدى فيما يتعلق بالأمن والسلم الداخلي والإقليمي، وتأثيرهما على النهضة الاقتصادية والعمرانية والصناعية لكل الأطراف، وكانت الدبلوماسية الرفيعة التي قادها رجل الدولة الديناميكي نيجيرفان بارزاني رئيس الحكومة ونائب رئيس الحزب الديمقراطي الكورستاني اكبر الأحزاب السياسية في الإقليم وأعرقها، قد أتت ثمارها في كثير من الإشكاليات في الداخل والخارج وبالذات ملف الحدود مع الدولة التركية وجمهورية إيران، وقد أدركنا جميعا أثناء تأزم العلاقات بين تركيا والإقليم وتحشيدها لعشرات آلاف من جنودها مع كامل تجهيزاتهم الهجومية قبل عدة سنوات، كيفية معالجة الموقف بهدوء وتأني من لدن الحكومة ورئيسها السيد نيجيرفان بارزاني، حينما خاطب الأتراك قائلا لهم إن مصالحكم العليا وامن بلادكم واستقرار اقتصادكم يكمن في مئات الشركات التركية التي تستثمر مليارات الدولارات في كوردستان والتي ستتعرض جميعها للخطر في حالة تأزيم الأوضاع إلى درجة الفعل العسكري.
لقد قاد الرئيس بارزاني في كثير من المواقف الصعبة الدبلوماسية الكوردستانية لحل إشكاليات معقدة بدءً من الصراع مع حزب العمال الكوردستاني في تسعينات القرن الماضي، وانتهاءً بكثير من المشاكل الداخلية والأزمات السياسية التي نجح في حلها أو تهدأتها سواء مع الحكومة الاتحادية ومؤسساتها أو بين أطراف العملية السياسية في الداخل، ويأتي ذلك ترجمة لنهج اعتمدته الإدارة في التعاطي مع الأحداث بحكمة وتأني ومرونة تخدم مصالح البلاد العليا، ذلك هو نهج البارزاني الخالد في التعامل مع الأزمات والحرص على وحدة الصف والأمن والسلم الاجتماعيين في كوردستان.
لقد أدركت الإدارة في الإقليم بسلطاتها الثلاث وفعاليات الشعب السياسية والاجتماعية إن معالجة أي مشكلة من المشاكل تستلزم وعيا عميقا وإيمانا راسخا بمصالح البلاد العليا قبل القيام بأي عمل أو رد فعل غير محسوب النتائج، وبذلك اعتمدت أسلوبا حضاريا ومدنيا تميز بالصبر والمطاولة والدقة في موضوع المناطق المتنازع عليها، التي حاولت كثير من الأطراف إشعال نار الفتنة والحرب، هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي وفيما يتعلق بانتهاكات دول الجوار شمالا وشرقا، اعتمت ذات النهج في مقاومتها ورفضها للتدخلات والتجاوزات بالتظاهر والاعتصام والاحتجاج والدبلوماسية الهادئة بعيدا عن تشنيج الرأي العام وإشاعة أجواء الحرب والقتال، التي لا تخدم أحدا في أي حال من الأحوال بالحفاظ على إعلام هادئ ومتزن يحفظ الأمن والسلم الاجتماعيين.
إن إقليم كوردستان الذي يتميز اقتصاده ومجتمعه بالديناميكية والحيوية، ووضعه الأمني بالاستقرار والسلام تحول إلى ملاذ آمن لكل العراقيين حيث يضم اليوم ما يقرب من مليوني نازح من جحيم الصراعات المذهبية والسياسية في بغداد أو المحافظات التي تعرضت لاحتلال عصابات الإرهاب رغم أن حكومة نوري المالكي فرضت حصارا اقتصاديا بمنع حصة الإقليم من الموازنة منذ مطلع عام 2014م مع وقف رواتب الموظفين، إلا إن الإقليم يقوم بواجباته الإنسانية والحضارية تجاه مواطنيه والنازحين اليه، كما انه حافظ على كونه منطقة جذب مهمة جدا للاستثمارات الوطنية والأجنبية، التي تساهم في تطوير الإقليم ونهضته الكبيرة، والتي حولت كوردستان إلى ورشة كبيرة في كل ميادين البناء والأعمار والتصنيع وتحديث الزراعة وتطويرها، وما حصل في قطاع الكهرباء والطرق والخدمات الأخرى خير دليل على نجاح برامج الحكومة ودبلوماسيتها الهادئة في التعاطي مع الملفات الساخنة، بما يجعل كوردستان في منأى عن أي عمليات طائشة ربما تؤذي مصالح كل جيران الإقليم الاقتصادية والمالية والسياسية وفي مقدمتهم تركيا وإيران اللتان تتمتعان بمصالح اقتصادية مهمة جدا في الإقليم.
لقد أثبتت السنوات الماضية التي قاد فيها الرئيس مسعود بارزاني الإقليم، انجاز مهمات ومشاريع بالغة الأهمية في ميادين الأعمار وتحديث المدن والخدمات والسكن، وإرساء منظومة علاقات دبلوماسية رصينة مع كثير من بلدان العالم، على أسس متوازنة تحكمها العلاقات الاقتصادية والسياسية بشكل مهني، مما بلور نسقا ديناميكيا من الدبلوماسية التي تعتمد العمل المنتج بعيدا عن التهويل والتشنيج، والذي دفع كثير من بلدان العالم إلى افتتاح ممثليات لهم في العاصمة الإقليمية اربيل والعمل من خلالها لخدمة الاستثمارات في كافة المجالات التي تتيح تبادلا مشتركا للمصالح الاقتصادية والمالية بين دول الجوار والإقليم.
وفي الحرب مع داعش التي استهدفت كيان ووجود الإقليم شعبا وأرضا، لم تذهب قيادة الإقليم ورئيسها البارزاني إلى النفير العام وتعطيل الدستور وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي تتطلبها حالات الحروب المماثلة، بل حافظت على الأمن والسلم الاجتماعيين بشكل أثار إعجاب كل دول العالم بما اتصفت به من حكمة ودقة وشجاعة واشتراك فعلي للقائد العام الرئيس بارزاني وأفراد أسرته في كل العمليات التي تصدت للإرهاب، دون أن تحدث أي ضجيج أو تشنيج للشارع الكوردستاني الذي اتصف حتى الآن بمستو راقي في تعاطيه وتفاعله مع الأحداث، حينما استقبل رغم الضائقة الاقتصادية ما يقرب من مليوني نازح عراقي وسوري.
إن مصلحة كل دول الجوار للإقليم وخاصة إيران وتركيا هي ترسيخ السلام في إقليم كوردستان والحفاظ عليه، لأنه يحافظ بالتالي على مصالحها الاقتصادية وسوقهما الكبير في الإقليم خاصة والعراق عامة، وغير ذلك مهما كانت الأسباب والمبررات سيعود عليهما بالضرر الكبير، لا من الجهات الرسمية بل من الأهالي الذين سيعزفون تماما عن أي مصلحة تركية أو إيرانية مهما كانت، وهذه بتقديري هي رسالة كوردستان المتحضرة والدبلوماسية إلى الجميع.