تقاس درجة تطور البلدان المعاصرة, من خلال مقدار رقي عدد من منظومات الحياة فيها, ومن أهم هذه المنظومات, هي منظومة القيم الأخلاقية التي تكون عادة مسئولة, عن مجمل سلوكيات الفرد البشري, بل ومحددة لأغلب مشاريعه وسلوكياته الحياتية, (الاجتماعية منها والدينية والوظيفية)؛ ولا يقتصر مفهوم القيم هنا على الجانب الديني, بل هي بمضمونها الفلسفي العام, مجموعة الأفكار والمبادئ التي تؤثر بالفرد أو الجماعة, وتحقق لهم مستوى معين من الانقياد الوجداني والسلوكي مع اعتراف داخلي بهذه القيم.
من أهم المشاكل التي تواجه العراق المعاصر, هو عدم وجود منظومة قيم وأخلاقيات مهنية, تتحكم في سلوكيات الموظف الحكومي, خاصة بعد التغيير الذي حصل بسقوط الطاغية عام 2003؛ فأغلب شرائح المجتمع العراقي, كانت تحمل تصورات ومفاهيم معادية ومعارضة في اغلبها لكيان الدولة أو الحكومة, من خلال استمرار موقفهم العام من سلسلة حكومات الطغاة التي حكمت العراق, منذ مطلع القرن العشرين وحتى سقوط الطاغية صدام, حتى أصبحت عملية اندماج الوعي العام للمواطن العراقي, مع أدبيات وأخلاقيات العمل الوظيفي والحكومي, أمر بعيد جدا عن أساليب التفكير ألقيمي المتعارف عليها والمعترف بها في معزوفة السلوك الاجتماعي.
احترام المواطن العراقي لمفهوم العمل الوظيفي في العراق, يجب ان يكون نابعا عن بناء منظومة النزاهة في العمل العام, حيث يقود هذا البناء إلى التأسيس لقطاع عام فعال, يحظى باحترام المواطنين, ويمكن من خلال هذه المنظومة تحصين المجتمع ضد ظاهرة الفساد, والنجاح في إيجاد آليات ناجعة في محاربته والقضاء عليه.
المؤسسات الاجتماعية والدينية والتربوية في البلد, يجب أن تصب اهتماماتها, في إيجاد الطرق والوسائل والأساليب الناجعة, لخلق وتنشئة معايير أخلاقيات وسلوكيات العمل المهنية في إطار العمل الحكومي, كما يجب عليها أن تحدد للموظفين العامين مجموعة القيم والسلوكيات التي ينبغي إتباعها أثناء أداء مهماتهم, وفي علاقاتهم فيما بينهم من جهة ومع جمهور المستفيدين من جهة ثانية.
وما نود الإشارة إليه هنا لا يقتصر على أبعاد الالتزام ألقسري التي توفرها النصوص القانونية, بل إن ما نقصده هنا يجب أن يكون متقعد على أسس التزام أخلاقي طوعي, من قبل الدوائر والموظفين العموميين, حيث يكون الضمير لديهم كأداة رقابية داخلية فعالة, حتى نصل إلى مرحلة يكون للدوائر المختلفة الحق وبشكل منفرد, أن تصيغ رسالتها وقيمها المنفصلة بها بناء على القيم الأساسية, ويشمل ذلك معايير التصرف والسلوك المتوقعة من الموظف .
لقد تبنت المرجعية الدينية في النجف الأشراف, ومنذ التغيير الحاصل عام 2003, خطابا يحترم ويحث على احترام, منهجيات القيم الأخلاقية والمهنية الوظيفية, والتي من المفترض ان تكون كالشرايين الدموية, في جسد الدولة وجهازاها الحكومي؛ وقد صرحت في الجمعة الأخيرة, على وجوب أن يكون بناء الهيكل الوظيفي في الدولة العراقي, قائما على معايير (الكفاءة والنزاهة والحرص على مصالح الشعب).
أصدرت المرجعية الدينية في هذا البيان, إشارة واضحة, على عدم اقتصار عملية اختيار الموظفين أو المسئولين في الدولة وتقيمهم, مبنيا فقط على موضوعة (الكفاءة) أو (المهنية), بل ان المرجعية حاولت في خطابها, أن تربط بين منهجيات وبناءات العمل الوظيفي والإداري, ببعدها القانوني, وبين معايير القيم الأخلاقية
الوظيفية, والتي أشرنا اليها في بداية المقال, والتي مع الأسف نجد أن أغلب مفاهيمها, مفقودة في أطر التربية والسلوك لدى الفرد العراقي!
*ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر- باحث مهتم بالأيديولوجيات السياسية المعاصرة.