( الجزء الأخير )
الحركة اليسارية التي خرج الكثير من قادتها وناشطيها من رحم الحركة الشيوعية وتعززت كقوة مستقلة عنها في أوربا وفي بلداننا النامية أخفقت في تقديم نفسها كبديل للحزب الشيوعي بسبب عجزها عن بناء وحدتها الفكرية وتوحيد قواها. وبصرف النظرعن النوايا الحسنة والرغبة الحقيقية لخدمة الجماهير التي تعبر عنها نشاطاتها السياسية والثقافية هي في وضع لا تحسد عليه بسبب التركة الثقيلة من المشاكل الفكرية والتنظيمية والنفسية التي خلفتها بيروقراطية الجيل الأخير من قيادات الكثير من الأحزاب الشيوعية ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. تلك البيروقراطية التي استخدمت مبدأ سرية العمل والمركزية الديمقراطية ( اللاديمقراطية ) لتخفي طبيعتها الطفيلية البتي برجوازية ومبررات هيمنتها على شئون الحزب السياسية والتنظيمية والمالية والعلاقات الخارجية مع الاحزاب الشقيقة في العالم ليس لمصلحة الحزب وجمهوره بل لمصلحتها هي..ولهذه الأسباب ومن أجل البقاء حتى الموت على رأس الحزب لم تسمح باجراء اصلاحات ديمقراطية وتنظيمية تضع الاساس لحياة صحية سليمة داخل الحزب ولمصلحة جميع أعضائه وبالتالي جماهير شعبه.
وتحت ثقل هذا العبئ وبسببه فان الحركة اليسارية وبرغم قربها وقرابتها مع الفكر الماركسي ستبقى لوقت طويل في المستقبل عرضة للانقسامات والانحرافات غير المتوقعة والتراجعات غير المحسوبة عن نصوص البرامج السياسية المعلنة وسلوك اليسار اليوناني الذي مايزال حديث الصحافة اليسارية مثالا حيا على ذلك. فانفراد جناح زعيم اليسار اليوناني ” سيريزا ” في مفاوضاته مع الاتحاد الاوربي وموافقته غيرالمتوقعة على شروطه رغم رفض الجماهير اليونانية تلك الشروط عندما صوتت بـ ” لا ” في استفتاء يوم 5 72015 كان تعبيرا عن الموقف النمطي للبتي برجوازية واستعدادها للمساومة على مصالح كادحي الشعب عند اي مواجهة مع أعداء الطبقة العاملة. وكان من نتائج القبول بالشروط الاوربية أن انقسم ” إئتلاف سيريزا ” الى جناحين أحدهما بقيادة تسيبراس ضمن نفس الاسم ” سيريزا” والآخر باسم ” حزب الوحدة الشعبية ” الذي يقف الى يسار ” سيريزا” ويقترب من الحزب الشيوعي اليوناني وربما يتحالف معه في الانتخابات القادمة المقرر لها ان تنعقد في العشرين من الشهر الحالي.(يلاحظ القارئ الكريم انني لا استخدم مصطلح الحزب عند الاشارة الى سيريزا لأنه في الواقع ليس حزبا بل مجموعة منظمات تجمعها مواقف وتفرقها أخرى وهو واقع أثبتته تجربة تشكيل الحكومة اليونانية).
هذه التغيرات في مواقف اليسار اليوناني وتحالفاته قد عززت من مواقع اليمين الأوربي في وقت أضعفت اليسار اليوناني نفسه ما شكل انتصارا مهما للاتحاد الاوربي ولأخطبوطه المالي الذي يستنزف ثروات الدول المدينة باجبارها للاستدانة من جديد في عملية ابتزاز لا نهاية منظورة لها عبرسياسات التقشف التي يفرضها على دول الاتحاد الأفقر كاسبانيا وايطاليا والبرتغال وايرلندا ودول شرقي أوربا بما فيها اليونان نفسها. وما يخشى منه ان يتصدع اليسار في دول الاتحاد الأوربي وبخاصة في اسبانيا وايطاليا بسبب تركيببتهما غير المتجانسة التي تشكل جانب الضعف الاساسي فيها ما قد يهدد الوحدة السياسية القائمة بين مكوناتها.
والحال نفسه ينطبق على الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية فهي اشتراكية ويسارية ما دامت في المعارضة وتخوض تنافسا مع الاحزاب اليمينية وما أن تتسلم السلطة تغدو أكثر يمينية من اليمين. فبرامجها الاقتصادية المعلنة بالغة الوضوح في تأكيدها على توزيع عادل للثروة والدخل وتطبيق نظم صارمة للضرائب لا تحابي الاثرياء وسياسة استثمارية تعزز النمو الاقتصادي وتقضي على البطالة وتدعم النظام الصحي لعامة الشعب. ولا تشعر هذه الاحزاب بالحرج حين تتراجع عن تعهداتها للناخبين ولا عن استخدام الأكثرية النيابية التي جاءت بها للسلطة لتمرير اجراءات تقشف أشد قسوة من تلك التي قامت بها الحكومة اليمينية السابقة.
فالبطالة في فرنسا هي أعلى الآن مما كانت عليه قبل مجيئ الاشتراكيين الى السلطة. وقد انتقد وزيران سياسة الرئيس هولاند متهمينه بالسير على خطى الحكومة اليمينية الالمانية فكان مصيرهما الاقالة فورا. أما وعوده قبل الانتخابات بتقليص دور قطاع المال في الأقتصاد فقد تم تجاهلها تماما وهو الآن أقرب اليهم من أي حكومة فرنسية سابقة. وبسبب ذلك انخفضت شعبية الرئيس هولاند وحزبه كما أظهرتها آخر استطلاعات الرأي الى نسبة 17% في حين فاز بنسبة 70% في الانتخابت التي جاءت به الى السلطة. ويتشكل حاليا يسارا جديدا في فرنسا معارضا لسياسة الحكومة الحالية يضم الوزيرين السابقين اللذين عارضا سياسة التقشف التي تطبقها حكومة الرئيس هولاند.
الحركة اليسارية اللاشيوعية سواء كانت كيانات مستقلة أو أجنحة في الاحزاب البرجوازية بامكانها ان تقدم الكثير لتحقيق الاصلاحات السياسية الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية في بلدانها سواء عملت لوحدها أو بالائتلاف مع قوى تقدمية أخرى لتحقيق برامج عمل وطنية مشتركة. وليس هناك مهمة أكثر الحاحا على الصعيد العالمي في الظروف السياسية الدولية الحالية من مهمة وقف المد الرجعي والديني المتطرف الدي تدعمه وتموله دولا غربية وعربية اسلامية لاهداف رجعية اقتصادية وسياسية امبريالية. فللحركة اليسارية جمهورا واعيا ومثقفا يمكن ان يغير الواقع الراهن حيث المد الديني المتطرف في الدول الاسلامية من جهة والمد الفاشي في المجتمعات الغربية من جهة أخرى. مثل هذه المهمة يمكن أن تضع الاساس لجبهة تقدمية عالمية لا تقل أهمية عن التحالف السوفييتي – الامريكي – البريطاني في الحرب العالمية الثانية ضد الحلف النازي الالماني – الياباني – الايطالي.
أما اليسار الشيوعي فهو كيان عالمي متعدد الجنسيات عابر للحدود الوطنية ولهذه الاسباب سيكون من الصعب تعريف فكره وموافقه دون تحليل مكوناته كل على انفراد وبرغم تعدد مسمياتها ترتبط تاريخيا بمواقف وفكر المنشقين الأوائل عن الاشتراكية السوفيتية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وبسبب الاعتماد شبه الكلي على ذلك الموروث الفكري النظري لم يتمكن اليسار الشيوعي من الخروج من أسر ذلك الموروث وصياغة نظريته ومنظوره الخاص به عن العالم الذي يسعى للوصول اليه بعد تغيير العالم الراهن. وقد بنا قادة التيار الشيوعي اليساري حينها كما هو الحال الآن عقيدتهم الانشقاقية انطلاقا من قناعة بأن البلاشفة الروس بثورتهم في أوكتوبرعام 1917حاولوا القفز على مرحلة تاريخية كاملة بانتقالهم من نظام الاقطاع الذي كانت عليه روسيا الى مرحلة الاشتراكية متجاوزين مرحلة كاملة هي مرحلة الثورة البرجوازية في الرأسمالية. وياتي ذلك انطلاقا من فرضية أن روسيا لم تمر بمرحلة الثورة البرجوازية كشرط أساسي للانتقال الى الاشتراكية. وبحسب اعتقادهم ان تأخر الثورة الاشتراكية العالمية قد أدى الى فشل المحاولة الاشتراكية في روسيا انطلاقا من قناعة بأن البلاشفة الروس بثورتهم قد طبقوا سمات ومبادئ الثورة البرجوازية في المرحلة الراسمالية. وفي اعتقادهم أيضا ان نموذج المجتمع السوفييتي لم يكن بديلا للرأسمالية ، بل نموذجا جديدا من الرأسمالية أطلقوا عليها ” رأسمالية الدولة الاحتكارية “. وقد اقترن اليسار الشيوعي بأسم الألماني أوتو رول 1874 – 1943 والهولنديان هيرمان غورتر 1864 – 1927 وأنتوني بانيكوك 1873 – 1960 وعشرات غيرهم في ايطاليا وبريطانيا وبلغاريا والولايات المتحدة واستراليا.
لقد تم تداول هذه الآراء عن الثورة الروسية حينها داخل عدد من الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية الأوربية وبخاصة داخل الحزب الشيوعي الالماني ( KPD ) الذي اضطر في النهاية الى اتخاذ قرار بطرد مروجيها من الحزب عام 1919 لمخالفتهم سياسته. وعلى اثرذلك أسسوا حزبهم الخاص في عام 1920 باسم حزب العمال الشيوعي الالماني (KAPD). وقد حاز الحزب الجديد على تأييد واسع انعكس في عدد المنتمين له الذي تجاوز الأربعين الف عضو. لكن سرعان ما انحسر التأييد الواسع في خلال أقل من عام واحد ودبت الخلافات الفكرية بين قادة الحزب الجديد لينشق ثانية الى جناحين انتهيا الى ان تنخفض اعداد المنتمين لهما من أربعين ألف الى 2700 عضو فقط. وما تزال تلك الآراء تتردد حتى يومنا هذا يتداول مؤيدوها مقالات ومؤلفات الكتاب والمفكرين الأوائل لليسار الشيوعي. وقد عزز شيوعيو اليسار اليوم آراءهم بانهيار الاشتراكية السوفييتية في عام 1990بكونه دليلا على صحة مواقف وآراء منظري اليسار الشيوعي الأوائل دون الأخذ بالاعتبار ما استجد من ظروف سياسية واقتصادية خارجية ( الحصار الاقتصادي والحرب الباردة ) لعبت دورا حاسما في القضاء على التجربة الاشتراكية السوفييتية. وما يزال الوقت مبكرا لازاحة اللثام عن الأسباب الحقيقية وراء انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي.
أما لماذا يجب وقف الثورات الاشتراكية في قطر واحد أو عدة اقطار الى حين قيام ثورة اشتراكية عالمية اذا ما اقتنع قادة دولة من الدول بأن شروط الثورة في بلادهم قائمة وناضجة وانهم قادرون على الاطاحة بالرأسمالية واجراء التغيرات الاقتصادية الهيكلية للوفاء بمستلزمات بناء الاشتراكية بما فيها الغاء بقايا النظامين الاقطاعي والرأسمالي وتحرير الطبقة العاملة وكادحي الريف من هيمنتهما..؟؟ قادة الثورة الألمانية والايطالية قد أعلنا ثورتيهما بعد الثورة الروسية ولم ينتظرا حدوث ثورة اشتراكية عالمية. وما أورده منظرا اليسار الشيوعي أوتو روول وأنتوني بانيكوك عن فشل الاشتراكية بعد عامين فقط من قيامها لا يعبر عن تفكير جدي لأن بناء بيت سكني واحد قد يحتاج الى أكثر من سننين من الوقت ومع ذلك فثورة البلاشفة لم تطح بالنظام شبه الاقطاعي- الرأسمالي في روسيا في تلك السنتين فحسب ، بل واحهت وأفشلت غزوا أجنبيا قادته الدول الامبريالية أمريكا وبريطانيا وفرنسا واليابان وبضع دول أخرى في وقت لم تخمد بعد نيران الحرب العالمية الأولى التي كانت روسيا طرفا فيها.
آراء قادة اليسار الشيوعي هذه قد قيلت عن جهل كامل بظروف ما قبل الثورة الروسية وبخاصة قوة ودور وتنظيم الطبقة العاملة الروسية في الدفاع عن حقوقها. فالطبقة العاملة الروسية بحركتها الثورية كانت متقدمة على مثيلاتها في دول أوربا الغربية اشواطا بعيدة. فصدى اضراباتها الواسعة في مدينة بيتسبيرغ وغيرها من المدن في عام 1905 و1907 ومساهمتها في ثورتي شباط وأكتوبرعام 1917 قد تردد في كافة الدول الرأسمالية وكان لها تاثيرها المعنوي في رفع الوعي الثوري بين صفوف الحركات العمالية هناك. فالعمال الروس أول من أسس السوفييتات في المصانع اثناء اضراباتهم المطلبية ومنهم اقتبس منظروا اليسار الشيوعي أوتو روول وأنتوني بانيكوك وغيرهم ما أطلقوا عليه ” الشيوعية المجالسية “.