بعد إصدار مجموعته الأخيرة ( لم يعد يجدي النظر ) عن منشورات الجمل 2003 , يكون الشاعر حسين عبد اللطيف قد وضع خلاصة تجربته الشعرية عند بقعة لونية من الشعر العراقي الحديث يقف بإزائها الناقد نصف مترنح في إمساك مراكز انبثاق ألوانه الشعرية أو تحديدها بشكل تقليدي عابر مالم يحفر بعمق , لا لأنها تمتلك تراكيب لغوية زئبقية ذات موسيقى ومعنى , بل لأنها تصل أحيانا لتشكل إيقونات تمثل تجارب اختصرت الزمن من دون أن تستنزفه كأن يبدو عقيما بل هو يبقيه فاعلا , حذقا , غنيا , قويا وذكيا أستطاع بإنسانية الإنسان نقش كل تجاربه من دون أن يغفل ارتباطه بالواقع الجغرافي الحي . فقد رسم هذا الواقع بمفردات عالية الإرث والإيقاع على طبق شفاف من الرمزية.
تبـــدأ المجموعة بقصــيدة ” هكذا دائما ” وتنتهي بقصيدة ” الرسيل ” فكأنما الحيّز ألقسري الذي وجد بينها هو فضاء زمني لكيان إنساني , الزمن يتوقف وتارة يتحرك فيه . عند قراءة القصيدة الأولى , يبدأ الواقع بالحركة كأرضية صلبة للشاعر , فبلدة الشاعر التي ينشدها هي واقع مادي حقيقي , لكنها تفتقر إلى البناء النفسي له . لذلك فإن نظرته تبدو أكبر مما تتسع له المدينة:
في بلدة آمالي
لا توجد
إطلاقا
شجرة
……
ماأرحب هذي الصحراء
مااكثر ماتبصر هذي العين ” هكذا دائما ” ص 7
الإيجاز والمفردة اللغوية المنحوتة بدقة هي ابرز سمات شعر حسين عبد اللطيف , فهي التعبير الذي تتبلور فيه خصائص أخرى بشكل خافت : كالرمزية والعاطفية وهي بانوراما صغيرة خاضعة للتأويل بدلالات ذات نواح متفردة . الكثير من شعره ينهل ماءه من هذا المعين :
عندما أعلن الشجرة
حارسة لحبي
تترنم الملائكة بمجد الرمل ” أعطية الشجرة ” ص 81
على حصير البحر يوما جلست
أغالب الأمواج في وحدتي
فمرة أعلو ..
وأكثر المرات
انحط ” قناع ” ص 60
فهو في كل مرة يخوض تجاربه ويستخلص اللاشئ , فكأنما هو يطارد في الشعور واللاشعور شيئا لايريده ولا يريد تحديده , فيعود إلى موقعه الأول في كل مرة ويستمر هذا الدوار اللانهائي في عالم مزجج – إن لم يكن مقيدا بالزمن :
وارقب الوقت
الذي ينمو
لعل الغصون
ياخذن قلبي
زهرة
في كفهن الغصون
دفلى وتفاحا ” عندليب الأسى ” ص 15
قد كان ماكان .. فما للأسف
الآن من معنى
قد يلمس الأعمى
قرارة الهاوية
ويألف السكنى ” أدراج الرياح ” ص 10
لكن على الرغم من هذا التأصل بالزمن في تجربته الفردية المتميزة من بين شعراء جيله , فإنه يبقى كأي قطعة نقود فضية تنتقل من يد إلى أخرى , من خطوة إلى أخرى , من زمن إلى آخر في ذات الموقف المقيد بالزمن والتجربة :
لقد هجرتني الأقوال
وأنا لست سعيدا
بهذا الهجران البتة ” الأمر كما ترى ” ص 131
الجسور على الأنهار
تؤدي وجائبها
بريد هذه الأيدي
لا ينقطع ” شهب ” ص 136
لا تزيحي النقاب
عن لقى الذاكرة
من سنين
وكلانا يماطل موج الحنين ” ودائع ” ص 49
ومن هنا تثار أسئلة عدة : هل هو أسير ” الأنا ” ؟ :
أدور حول ظلي
حول ظلي
لا ألحق الليل ولا النهار ” في عداد الذكرى ” ص 67
ماسبب امتعاضه ؟ :
جناية من أيها الرسيل : النكران الطويل
الذي لحقني ” الرسيل ” ص 124
هل هو متضايق من لغز الزمن ؟ :
رقاص الساعة يضرب صدغ الميت
تدحرج في أرجاء الليل الصرخة
ويفر ملاك مجروح من نافذة الغرفة
بجناحيه الضخمتين ” في عداد الذكرى ” ص 67
ولماذا الإحساس بالعزلة ؟ :
بنا حاجة إلى النوم
…..
…..
إلى نسيان وعزلة
إلى عزلة في الجبال وهرب
إلى هروب ” بنا حاجة ” ص117-118
ووحدي ” القوانة “
في غرامفون يدور ” أيها البحر ياراعيى ياصديقي ” ص 44
إذن ما الحل الذي يرتئيه لمعاناته ؟
كل ذلك يبدو جليا في قصائده التي أجابت عن هذه الأسئلة فجاءت بصيغة مناسبات شعرية عبرت عن افقها بذات مفرداتها واصطفاف معانيها .
القصائد – وهذا مايبدو – في هذه المجموعة , هي تجارب واقعية التأثير . ففي الماضي كانت ذات مستوى تنسج قدرها وحينما وصلت إلى النتائج وجدت نفسها مع جدلية درامية تتصادم مع الإحساس الحقيقي للذهن الإبداعي. فهي تعبر عن موضوعات تصل إلى مستوى خوار ” الأنا ” :
إياك.. يانفسي
إياك.. أن تجلسي .. يانفسي
أراه مثقوبا هو الكرسي
لكنها نفسي ” قناع ” ص 60
فهي طريقة درامية لطرح الموضوع تقترب كثيرا من طريقة ” همنغواي ” في الرواية على الرغم من أننا نعرف إن الأخير ذو منحى آخر هو الصراع التقليدي بين الإنسان والطبيعة . أما الصراع لدى حسين عبد اللطيف فهو الصراع المتحسر مع الزمن الذي ينطوي دائما على اللاشيء, فالريح واللاشيء يتلازمان في قصائده:
تطير الآن في الريح : الغرانيق
الصدى حولي
لقد طارت ” فالس آخر السهرة ” ص 63
ففي كل مرة تأتي إليه الريح لتلتهمه وتبقيه محبطا ثانية عند البداية الأولى :
أطبقنا الأيدي
وفتحنا الأيدي
مامن شيء في الأيدي
قادتنا الريح
إلى الريح ” دون جدوى ” ص 60
الولوج في الحاضر سواء كان محض اضطراب أو منظما هو فكرته في عملية الخلق الشعري , وإن كان الحاضر مزيفا فانه في النهاية يخرج وكأنما من أرضية أناس آخرين , فشاعرنا يقترب أحيانا في نظرته التعبيرية ليذكرنا بغويا أو ارنولد في مزجه التجربة الإنسانية بالواقعية اليومية المقنعة بالرمزية . فاللون الأسود برز في أعمال غويا بعد محنة الحرب الأهلية في اسبانيا ونتيجة لها . أما البحر لدى ماثيو ارنولد فهو الرمز الشاهق في شعره الذي المح به إلى الزمن والخلود وأحيانا إلى الإيمان المسيحي :
صديقي هو البحر , كهل ينوء بغربته الفادحة
ووطأة أثماره
…..
…..
هو البحر , يرعى تجاعيده , عند بابي ” أيها البحر ياراعيا ياصديقي ” ص 43
فهو صادق في رؤيته لنفسه , ويسجل موقفه من التجربة الإنسانية بإيقاع رقيق , حزين فيضعنا أمام تعاسة أو بؤس وكأن أحدا لم يهتم أو كأنه بنى بناء لكن من رمال :
من يلم شظايا الزجاج
وردية ورقيقة كأقدام الحمام أقدامنا ” أعطية الشجرة ” ص 86
لا ادري ماافعل
لا ادري حقا ماافعل بأيامي ” الأمر كما ترى ” ص131
وأنا يتيم بلا زهور
او رسالة مهملة بلا طابع
ولا عزاء لنفسي
فنفسي نفسها تناصبني العداء ” سحابة ” ص97
انه المشهد نفسه الذي يسجله الشاعر في كل مرة , كما في مجموعته الأولى ” على الطرقات ارقب المارة ” فهاقد مرت حقبة من حياته , عميقة , طويلة , ومريرة . لكن ما الذي جناه في ذروة ذلك الترقب ؟! يجيء حسين عبد اللطيف في مجموعته الأخيرة ليقول: لم يعد يجدي النظر. فهو في كل مشهد يصل إلى الذروة ليعبر عن ذاته بشكل عميق وواع للألم. انه يكتب القصيدة كمن ينحت في قطعة أبنوسية طويلة ويضع نتوءات يشير إليها بأهمية بالغة وكأنه يشير إلى جروحه التي هي حصيلة اشتداد الزمن عليه من دون تدخل منه أو أي كان . انه يصرخ بصوت حلمي. لاشك أن هناك من تسبب في آلامه او مرارته ولم يجد سوى مفردات في مقدمتها الريح , الشجرة , البحر , الأجنحة .. الخ استطاع أن يلخص بها ذلك الألم والضجر والإحباط والعزلة:
وها أنا
ها أنا
لاحنطة في يدي
ولا على
شكواي
عندي
شهود ” عندليب الأسى ” ص15
لذا فالكلمة هي رمز يستخدمه كلما اقترب من خصوصية الروح التي تزخر بها قصائده , والروح هنا اعني بها سيكولوجيا الاختبارات اللفظية والتراكيب التي تنطوي أحيانا على الغموض أو التعقيد وأحيانا أُخر على البساطة والعذوبة , تتكرر هذه الألفاظ من قصيدة إلى أخرى :
كانت الروح عارية
مثل ارض
وطيّعة
مثل ماء
وكالحة كاللحاء
كانت الروح مضروبة بالعصا
وهي سيدة الكبرياء ” الترنيمة ” ص 29
آس
ماء
في صحن
ملح
في ماء , شمعة
ريح ” نول الأيام ” ص
75
لكن هذا لايعني إن الكلمة لديه غامضة , أو انه يلجأ إلى المطاردة , بل إنها تفرض إيقاعها الحسي والدلالي فتخلق تأثيرا إنسانيا عذبا يحدده بالزمن أحيانا وبالحياة أحيانا أخر :
الكراسي
أرامل
في انتظار الجليس
الأرامل
كراسِ
شاغرة
عميان
بلا عصي
ولااكتاف ” الكراسي ” ص 123
يبقى التحليل للنص وفقا لمعايير خاصة هي السمة التي يستند إليها الناقد , فإذا كان ذا تركيز كبير على الشكل الخارجي أو اقل فانه عندئذ يكون في دائرة السطحية البحت , مما تفقده المعنى الدلالي الذي يريده الشاعر والسمة السطحية هنا موضوع لايخصنا الآن .
إن دفع القارئ إلى أغوار الخيال الشعري هو الذي نبتغيه . فالسمة الواضحة في شعر حسين عبد اللطيف هي جمالية المفردة واغواءاتها , فهو يمسك القارئ عند المعنى البسيط ولا يلبث حتى ينأى به إلى العميق وكأنه موجة عاتية أو دوارة ماء أو لولب يغور به نحو مركز يتعين عليه الخروج منه بتجربته الشعرية :
بيتي , هنا , بيتي
صحت وأومأت
لكنما السابلة
مروا على بيتي
ولم يروا بابه ” أدراج الرياح ” ص 10
وفي أحيان يلجأ الشاعر إلى دمج صورة رومانسية جميلة وبيئية خلابة للتعبير عن الألم تشوبه العاطفة وعن بهجة يشوبها الإحباط :
سأشعل نارا
وادعوا الطفولة
لتجلس قربي ” نار خضراء ” ص 36
لو ان في الأمواج مايدفع
طوفا إلى اليابسة
ظلا إلى الشمس ” قناع ” ص 59
على أية حال , ففي شعر حسين عبد اللطيف تجتمع عناصر كثيرة هي بؤر , فتارة تكون معلنة حد النار وتارة غائرة في العمق كالمحّار والكلمة فيها تجدها متحركة أو ساكنة يسوق بها معاناته واحباطاته . أما الزمن فقد سجله في مواقع كثيرة وركز عليه لأنه أهم عنصر في قصائده. أما عملية مزج هذه العناصر , فتشكلت من دون إرباك لسلسلة الأفكار الخاصة بالمتلقي أو القارئ , فالزمن والإحباط والعزلة هي المائدة الشعرية التي يقدمها الشاعر لقارئه الذي يترصد مايحيط بها كالواقعية والرمز والأسطورة. وقد أصرّ الشاعر على عدم تجاهلها لأنه بلاشك مقيد بواقعه المؤلم , فهو مثل عرف الديك يتصبب دما في كل معركة يخوضها من دون أن يتخلى احدهما عن الآخر حتى النهاية .
إن الشاعر حسين عبد اللطيف وكأنه يريد أن يصل التجربتين الشعريتين , الرؤية في ” على الطرقات ارقب المارة ” والنظر الذي لم يعد يجدي في ” لم يعد يجدي النظر ” ولكن بقصد فلسفي على مايبدو , هذه المرة .