ليس اكتشافا جديد القول، أن أوربا تعلمت منا الفلسفة والملاحم والأدب والفلك والحساب والفن والطب والموسيقى والعمارة،فمن المسلمات أن الريادة في مجال الحضارة الإنسانية كانت لاسلافنا، والنتاج الثقافي ينتقل من شعب لآخر، أما بالتمازج المباشر بين الشعوب أو غير المباشر عن طريق الترجمة أو غيرها من الوسائل.
أما الحب فمبدأ يصعب تقبله، لأنه عاطفة إنسانية نبيلة، أو هي مشاعر تلتهب عند الرجل عندما يلتقي بامرأة مفعمة بالجمال والأنوثة، أو هو ميل قلبي تابع للغريزة البشرية.
ولكن المطلع على تاريخ الأدب الأوربي والخصائص الاجتماعية للاغريق لا يستهجن هذا القول، كان المجتمع الإغريقي والذي هو أساس القوميات الأوربية وحضارتها، يعتبر الحب ظاهرة رجالية فقط، علاقة رجل برجل، أما علاقة الرجل بالمرأة فلا تعدو الجانب الجسدي، قد تصل إلى درجة الانسجام والتهذيب، ولا شئ لدى الإغريق أجدر بالاحتقار والاشمئزاز من منظر رجل يفني نفسه في سبيل الحصول على امرأة، أما الفلاسفة فكانوا ينظرون لها بأنها مخلوق ناقص العقل ومسبب للضرر والقلق، والمسيحية تراها أم الخطيئة، وهي وراء حرمان آدم من الجنة، ولربما اعتبرت الحب كفرا ولعنته في فترة ما.
وهذه صورة مغايرة تماما لما عهدناه في تراثنا، فالمرأة الهدف المنشود للرجل يبذل من أجلها أغلى المهور، ويبكي في جوف الليل على فراقها ،ولربما جن من أجلها، أو دفع حياته ثمنا لهذا الحب، بل أبعد من هذا فالقتيل في هذا المضمار شهيد،
لكل حديث عندهن بشاشة وكل قتيل بينهن شهيد
وتراثنا الأدبي مملوء بالعشاق الذين اقترنت أسمائهم بأسماء محبوباتهم، مثل مجنون ليلى وجميل بثينة وكثير عزة وقيس لبنى، وغيرهم مثل عنترة بن شداد وعبلة وعمر بن ربيعة ونعم والعباس بن الاحنف و فوز وابن الرومي ووحيد المغنية والقائمة تطول .
وما يعرف اليوم بعيد الحب والذي كان يحتفل به في الدول الناطقة بالانكليزية يوم 14 شباط، وأصبح اليوم يحتفل فيه بالعالم ويسمى يوم القديس فالنتاين،بالاصل لم يكن له علاقة بالحب، كان فالنتاين قسيس روما وكان معارضا لقانون سنه إمبراطور روما يمنع فيه زواج الشباب، لأنه يراى أن الزواج سوف يمنعهم من الانخراط بالجيش ولا يساهموا في الحروب التي تخوضها روما ضد الشعوب التي استعمرتها ،وكان القسيس فالنتاين يقوم بعقد قران زواج الشباب في الكنيسة سرا، فوصل خبره إلى الإمبراطور فحكم عليه بالإعدام سنة 256 م، وبدأت الكنيسة تحتفل بمناسبة استشهاده في مثل هذا اليوم، ثم حيكت حول هذا الموضوع الأساطير في القرن التاسع عشر، حيث قالوا عنه أنه وقع في حب ابنة السجان وكان يرسل لها بطاقات الحب، وقيل انه كان يحمل وردة بيضاء أثناء إعدامه فاصطبغت بالدم وتحولت إلى حمراء، وكان الترويج لما يسمى اليوم بعيد الحب في بريطانيا أولا ومن ثم بهذا الشكل الواسع هو تجاري، من قبل محلات بيع الهدايا بمناسبة هذا العيد.
ولم تظهر اتجاهات الحب في الأدب الأوربي ،والذي يعرف بالتروبادور إلا في القرن الحادي عشر للميلاد، وهو يشابه غرض الغزل في الشعر العربي، ويلتزم بالقافية الواحدة والتي لم تكن معروفة في الشعر الأوربي قبل هذا الوقت، وأول تروبادور كتب شعرا في هذا الغرض ،هو وليم اوغليوم التاسع كونت مدينة بواتية الفرنسية
(1126 -1071) م ،وهو متأخر عن ابن زيدون الأندلسي بأكثر من نصف قرن، وعن شعراء العرب العذريين بما يزيد عن أربعة قرون، وكان على علاقة بدنيا العرب، لأن مدينته كانت ساحة حرب بين العرب والفرنسيين، وكانت زوجته الملكة الشابة فيلبيا من بلدة ارجوان في اسبانيا مركز حضارة العرب في اوروبا، ونتيجة لهذا الاتصال المباشر بين العرب والأوروبيين، خلال حقبة الوجود العربي في اسبانيا والذي دام ثمانية قرون،انتقلت قصائد الحب في الشعر العربي والتي كانت تغنى في الأندلس، حيث كان الأدب والشعر والغناء هواية الناس المفضلة آنذاك، مما جعل اللغة العربية تنتشر في الأقطار المفتوحة بسرعة معجزة، ويقول تروبادور آخر وهو تايمون فيدال عن شغف وتهالك الاوروبيين على الشعر والغناء في تلك الفترة (قد استهواهم وشغل أفكارهم وسيطر على عقولهم حب الشعر والغناء ،حتى لا يسع السامع الذي لايفهم شيئا منها إلا أن يتظاهر بالفهم ).
ودخلت الأدوات الموسيقية مثل العود والرباب والقيثار،وكذلك طريقة الضرب على هذه الآلات إلى أوربا ، وحتى كلمة تروبادور مأخوذة من كلمة طرب العربية، ويرى الباحثون انها تحريف لكلمة (دور الطرب ) مع تقديم الصفة على
الموصوف كما يحدث عادة في اللغات اللاتينية، وإضافة لذلك كان الشباب في أوربا معجبين بالروح العربية الجياشة والزاخرة بالحكايات وقصص المغامرة والفتوة والمقتدرة على الوصل إلى المعشوقة غير مبالية بهول مخاطر الصحراء ،ومن ذلك الوقت بدأت قصص وحكايات التروبادور تنتقل في أوربا، منها قصة حياة التروبادور جوفري رودال وعشقه فتاة طرابلسية صليبية، بعدما سمع عن جمالها وكمالها ،ونظم الشعر في حبها ولم يكن قد رآها بعد، ثم دفعته الرغبة في رؤيتها والسفر عبر البحر، فمرض من شدة الحب والشوق مرضا كاد يودي بحياته وهو على ظهر السفينة، ولكن الركاب نجحوا بحمله إلى خان في طرابلس وهو في رقمه الأخير، وكانت الفتاة قد سمعت بخبره ،فهرعت إلى زيارته وهو على فراش الموت، واخذته بين ذراعيها ،وأدرك انها الحبيبة، فصلى شاكرا الرب الذي مد في حياته ومكنه من رؤيتها قبل موته، ثم مات بين ذراعيها، فامرت أن يكون له جناز محترم ومدفن في المعبد، ثم ارخت قناعها حزنا عليه.
وشبه هذه القصص بدأت تنتشر حتى أصبحت مدرسة تحمل نفس الأفكار والآراء عند شعراء العرب العذريين.
يعتبر شعر الحب المغنى الذي عبر عنه بالتروبادور في الأدب الأوربي، ثورة حررت المرأة الأوربية من مفاهيم العصور الوسطى، فالمرأة لم تعد أداة لإشباع غريزة الرجل أو اختا قانتة كما في عصور المسيحية الأولى، بل أصبحت هدفا ساميا ومثلا عاليا يسعى إليه الرجل، باذلا ومضحيا ومتحليا بكل ما يتحلى به الفتى من خصال حميدة، وأصبحت المرأة نموذج للانثى بجمالها الذي هو فوق الجمال الجسدي، وحديثها ذو حلاوة وخلقها لاعيب فيه ولا نقص، كل تلك الصفات اغدقها الشاعر على عشيقته وكشف عن مكنون خلقها وخلقها، وفوق كل هذا هي ذات تمنع ودلال ،لها القدرة أن تسعد المحب أو تشقيه، تميته أو تحيه، هي صاحبة الكلمة في قبول الحب أو رفضه، فتسامت عند هؤلاء الشعراء فوق حدود الآدمية حتى بلغت السماء، وفي ذلك يقول جوسر في محبوبته كرسيدا :
كان اسمها كرسيدا
فضلت على حسان طروادة جمالا،
ملاك بصورة انسان
مخلوق سماوي خالد
اسبغ الله عليه الجلال والكمال
وارسله إلى كوكبنا المسكين
يتهادى بعز ودلال.
وهو شبيه بما قاله جميل بن معمر:
هي البدر حسنا والنساء كواكب
وشتان مابين الكواكب والبدر
لقد فضلت حسنا على الناس مثلما
على الف شهر فضلت ليلة القدر
هذه الانعطافة الثقافية والفكرية أصبحت الأساس في طرح حرية المرأة ومساواتها بالرجل في أوربا، وطبعا يجب أن نضع خط فاصل لهذا المصطلح ففيه جنبة سيئه تدعو إلى التحلل والمجون ،وفيه جانب مضئ مثل المشاركة في الوظائف العامة والحياة السياسية، والمساواة في التعليم والخدمات والأجور والحقوق المادية والشخصية، ونبذ العنف ضد المرأة والتعسف في استخدام المورث الاجتماعي والقبلي، أو الإساءة اليها واستخدام لغة مبتذلة غير معتادة في التعامل .
وقد أشك بتسامي المرأة عن الآدمية، لربما هي كائن إنساني يموج بالعواطف والأحاسيس، مما جعله لوحة مكتملة أو كنز دفين، بحاجة إلى من يجيد جلائه تحت إيقاع الشعر.