التظاهرات كوسيلة ناجعة للتغيير والإصلاح، على الأقل في هذا الوقت لا، هكذا أظن. فبالمحصلة هناك في كل حركة احتجاجية من يبرع باللهاث وراء المنافع الشخصية، ولا يهمه غير مصلحته ولو ترك وراءه انهارا جارية من الدماء. وهناك الأبله من لا يعرف سوى خدمة أهداف فئته او جماعته مهما استغبته واستحمرته ودفعت به للهاوية. وهناك الحانق الذي يجد في التجمهر متنفسا آمنا لتفريغ رغبات وشحنات مكبوتة. وبلا شك هناك من يحاول بنزوله للشارع الضغط على السلطة لتحقيق مطالبه المشروعة التي خرج من اجلها.
التظاهر في معظمه اضطراب مجتمعي له دوافعه ومسوغاته وشكله العام المحكوم بتطور المجتمع ومنظومة القيم والعلاقات المتشابكة التي تحكم افراده مع بعضهم البعض من جهة، ومع النظام بكل مؤسساته وهيآته السياسية والاجتماعية والاقتصادية من جهة ثانية.
لكن هذا ماذا يعني؟ يعني ان ذلك الاضطراب وقبل ان يكون نتاجا ظرفيا لمسببات او ضغوط مرحلية أوجدها وضع استثنائي او سياسة حكومية خاطئة هو نتاج لخزين هائل من الخبرات والتجارب الواعية التي طورها أفراد المجتمع على مر السنين وأصبحت لاحقا جزءا أصيلا من ثقافتهم وهويتهم الانسانية.
ورغم بعض الاستثناءات يبقى الحكم في تلك النظرية قائما بصحتها، وعلى اساسها لا نمتلك غير الموازنة المعرفية والقيمية والتحكيمية بين اضطراباتنا واضطرابات المجتمعات المتطورة بين تظاهراتنا وتظاهراتهم حتى تتكشف معها سعة الهوة الفاصلة بيننا وبين الآخرين والاستدلال منها عن أسباب فشل كل حركاتنا الاحتجاجية او الانحراف المدوي والسريع لـ “ثوراتنا” عن أسسها ومبادئها التي قد تبدو لوهلة بأنها مثالية.
وبوجه الخارجين لمصلحة عامة او لاصلاح انحرافات تمتص ثرواتهم وتنغص حياتهم، ينشط الكثير من المدفوعين بالنوايا الذاتية او الفئوية والمعبأين عاطفيا، اكثر من غيرهم وينتجون أنماطا سلوكية قادرة على عزل وإزاحة أية جمهرة مهما كانت متمكنة وواعية لما تقوم به. والسبب ان المجتمع تكيف وعبر سنوات وعقود طويلة على انتاج العديد من المنتفعين والأغبياء والمرضى النفسيين، وهي بالتأكيد فئات تفسد مجتمع باكمله وليس تظاهرة من بضعة مئات او آلاف.
ولا يعني ذلك باي حال صرف النظر عن اللجوء لخيار التظاهر باعتباره احدى وسائل الضغط الجماهيرية. لكن من غير الممكن عدّه الوسيلة الاخيرة او الوحيدة او الأكثر تأثيرا خصوصا مع التحديات الراهنة التي تهدد وجود البلد برمته على خارطة العالم والتي نجمت بالأساس عن تظاهرات سابقة استأثرت بها الفئات الثلاث على مطالب الآخرين “المشروعة” وتسبب اخيرا بنهش ثلث الوطن. وهذا ليس من باب التهويل او التبرير او التسويف وإنما لان الخطر الآن اقرب من اي وقت مضى.