22 نوفمبر، 2024 7:30 م
Search
Close this search box.

مدينة الرماد

وصلنا إلى مطار  العاصمة التركية إسطنبول في ساعةٍ متأخرةٍ عن حدود الليل. كان لا بد أن أفترق عن صاحبي، فطائرته متجهةٌ إلى ألمانيا حيث سيقدم أوراق لجوءه هناك, آملاً  بأن ينعم بحياة رغيدة، أما وجهتي هي إلى الديار, التي نتذكرها سوياً حيث الجبال و الغابات والهور وقصب البردي.
وقفنا في صفين متقاربي البداية متباعدي الوُجهَة، ننتظر الدور لتسليم الحقائب، صاحبي كان أخف من ريشةِ حمام من الفرح, لم يكن وقتها مُثقلا بالحياة أو مزدحم بالموت على عكس من كانوا معي.
التفتُّ اليه قائلاً:
– أتذكُرُ الديارَ؟
فاندهش وتدارك بأبتسامة قائلاً:
– ما بها ؟
– أتذكُرُ الغابات؟
– نعم، وأذكر مزار يونس عندما كان على قيد الحياة.
– أتعرف إن الفجر هناك هو فجرُ  متكرر ؟ يأتي وفق أوامر صدرت  من  عقارب ساعةٍ، مسلوبة الإرادة. لا يحمل في جعبته سوى إعلانين، أولهما أن الجميع في هذه المدينة  مغبونٌ وبجدارة، والثاني هو إشهار بأن السواد  قد إنقشع والعيون تفتحتْ، أما البصائر فلا زال فجرها قابع في رحم الإرادة. أجسادهم فقط هي من تتحرك لأنها نجت من الموت بأعجوبة. لا لأنهم ناضلوا، بل لأن يد إلهية تدخلت, ولم تخرج قطعان الذئاب للصيد، أو قد يكون البعض قد نجى لأن  سكائره نفذت ولم يشعل عود ثقاب. عود ثقاب يكفي لإغواء بندقية قنص لمجاهدٍ خرج يبحث عن رائحة الموت.
– مجاهد ؟!!
– نعم إنه مجاهد فصّل الديانات السماوية وفق مزاجه. أو تعلم أن الصبح هناك يتنفس, كمخنوقِ يسحبُ أنفاسه, ولا شيء يمكن أن يُدَوَّن في الصحف أو يُذاع في التلفاز سوى خبر، مفاده “أن المدينة لو خلتْ منكم, سيعود صيادو الأرواح إلى ثكناتهم خائبين، ولو خلت منهم ستعودون إلى بيوتكم سالمين”, ولكن يبقى السؤال كيف يَخرجون أو يُخرجون ؟!
تماديت وعكّرتَ مزاج صاحبي الهارب من الواقع، أتممتُ حديثي قائلاً:
– الموت هو الحاكم الأوحد على الربيعين، لا صلاة هناك، ولاعبادة،  لا أنغام، لا اقتراب من رحمن رحيم و لا ابتعاد عن شيطان رجيم، سوى البحث عن سبل لتأجيل موت مُحَتَّم، فُرِضَ وفق قوانين سنّها أوباش تبوأوا مقاعد الفقهاء.
أما الحياة في الجانبين الأيسر والأيمن تٌنظمها نظرية الفوضى، والعقول غزاها  اليأس، أما  الأفكار, فقد شملها إعلان حظر التجوال، ناهيك عن الفضائل, الشرف، الحميه، النخوة، حب الأرض و و و , كلها رُكِنَتْ على رفوف قديمة في دهاليز الخوف والخيانة.
أردفتُ قائلاَ:
– هل أخبركَ ما المضحك؟!
ردّ صاحبي بتهكُّم:
– نعم
– إنّ إيمان أهلُ المدينة  بسلامتهم, كأيمان شخص بأن ثوراً لن يهاجمه لأنه نباتي، متناسين اللون الأحمر الذي  لطّخَ الثياب، ورائحة عصارة قصب البردي التي تغريه، ولعنة رياح الجنوب.  
آه، أما أشجار الغابات ياصاحبي، صارت  سوداء عمياء لا ظِلال لها، حتى الموت في دهاليزها  لم يعد خَجِلا بل يحاول أن ينصب فخاخه على مرأى ومسمع من الجميع, يغتصب الأزهار واحدة تلو أخرى، لا لذنب إقترفته, فقط لأنها تمايلت مع النسمات ونثرت عطراً .
و فَجأة قاطعتْ كلامي نداءات المطار التي أعلنت آخر  نداء إلى بلد المنفى, عجَّل صاحبي بالرحيل ولم يتسنَّ الوقت لأكمل حديثي عن الديار، علَّه يَعدل عن الرحيل، ونعود إلى مهد الولادة, حيث تتعانق الحدباء مع حقول العنبر.
في ذلك البرزح كان مقدراً لنا أن نفترق دون وداع.
 غادر صاحبي مُلَوِّحا ًبيده من بعيد صارخاً إلى الّلالقاء.
أجبته: إلى العودة، وسأستنجد  بيونس وهو في بطن الركام، وأهزُّ إليَّ بقصب الجنوب ليتساقط نفوساً زكية، عَلَّ أمَّك تغفرُ رحيلك في زمن

أحدث المقالات