من عاصر الزعيم الكوردي الكبير مصطفى البارزاني وعايشه وأدرك أخلاقياته وسلوكياته كقائد سياسي وعسكري، لا يستغرب في أن يكون أبناؤه وأحفاده اليوم في خطوط المواجهة الأولى مع العدو، وهم يدافعون عما زرعه ذلك الشيخ الجليل والقائد الحكيم من أسس أخلاقية غاية في السمو والرفعة، فمنذ الساعات الأولى لهجمة ما يسمى بالدولة الإسلامية داعش على حدود كوردستان من سنجار في أقصى الغرب إلى السعدية في أقصاه الشرقي، ترك مسعود بارزاني مقره الرئاسي واختار أكثر الجبهات سخونة ليقود بنفسه معارك تحرير البلدات والقرى التي استباحتها داعش قبل بضعة أشهر، بينما توزع أولاده وأخوته وأولادهم وأبناء عمومتهم، كل حسب موقعه ومسؤوليته، على كافة الجبهات في مخمور والخازر وسهل نينوى وكركوك، في سابقة هي الأولى من نوعها على الصعيد الوطني والإقليمي، حيث يترك الرئيس وأبناء أسرته وأقربائه مقراتهم المدنية أو العسكرية بصفتهم القيادية لينتقلوا إلى الخطوط الأمامية للمواجهة مع واحدة من أشرس القوى الإرهابية وأكثرها همجية ودموية في العالم.
ربما يتصور البعض إن في هذا السلوك بعضا من الاستعراض أو محاولة لرفع معنويات المقاتلين هنا وهناك قياسا على الثقافة السائدة في أنظمة الشرق الأوسط السياسية، حيث يذهب الرئيس أو وزير دفاعه في جولة استعراضية لا تتجاوز في مفهومها وتوقيتاتها زيارات الاطلاع على العمل ميدانيا، لكن حقيقة الأمر مع مدرسة مصطفى البارزاني وطلابها أو خريجيها هي غير ذلك تماما، فقد ذهب مسعود بارزاني بصفته بيشمركة وقائد عاما لها منذ الساعات الأولى، لا ليطلع فقط ويعود، بل ليقيم هناك مع جنده وضباطه ويرسم ويخطط ويقود بنفسه مع أولاده وأخوته وأولادهم سواء كانوا مقاتلين عاديين أو ضباطا أو آمرين، حيث أدت تلك القيادة المباشرة والتواجد الفعلي في كل تفاصيل الحركة إلى إحداث تغيير نوعي في المشهد العسكري، لا في كوردستان والعراق فحسب، بل حتى على مجمل حركة منظمة داعش في سوريا، التي بدأت بالتقهقر والانكسار على أيدي قوات البيشمركه التي استوعبتها واحتوت صدمتها بعد هجماتها الأولى التي قامت بها واحتلت فيها بعض المدن والقرى في سنجار وكوباني وزمار ومخمور.
ورغم إن كل السياقات العسكرية ترفض تواجد قائدها العام في الخطوط الأولى للجبهة مع العدو فترة طويلة، وتحدد تواجده في غرفة القيادة أو العمليات المحصنة والبعيدة عن التماس، إلا أن مسعود بارزاني الرئيس لم يتخلَ عن وظيفته الأساس وهي كونه مقاتل في قوات البيشمركة، مؤكد في أول حوار له من الجبهة مباشرة مع الإعلامية زينة اليازجي، والتي لم تك تبعد عن خط المواجهة مع العدو إلا عشرين كيلو مترا فقط، بأنه عاد أخيرا إلى مهنته الأولى ويقصد البيشمركة، لكي يعطي نموذج القائد العسكري والسياسي الذي يحمل على أكتافه مسؤولية حماية امن وكرامة وارض شعبه ووطنه.
لقد رأيناه هناك في خط المواجهة للعدو مقاتلا لا يفرق عن أقرانه قيد أنملة لا في المأكل ولا في المشرب، يجلس مع جنده وضباطه أخا ورفيقا لهم، يناقشهم ويرسم معهم خططهم ثم يقودهم جنبا إلى جنب مع أولاده وإخوته وأبنائهم الذين ما برحوا الجبهة منذ اندلاع الحرب مع داعش وحتى يومنا هذا، في واحدة من ارقي تجليات القيادة والزعامة الحقيقية التي اختفت في عالمنا اليوم، حيث ينكفئ الرئيس أو الزعيم في قصره العاجي ويوجه أركان حكمه للقيام بواجباته كما يحصل في معظم بلدان العالم وخاصة في شرقنا الأوسط والأدنى والأقصى!
إن وجود مسعود بارزاني في خط المواجهة الأولى مع العدو إنما يمثل تلك الأخلاق والفلسفة القيادية التي أنتجها الزعيم التاريخي للكورد مصطفى البارزاني وهو يضع أسس مشروعه لنهضة كوردستان، دفاعا عن قيم التسامح والتعايش وحماية الإنسان من أن تنال منه أفكار التطرف وعصابات الجريمة والهمجية، بل والحفاظ على ديمومة بقاء كوردستان ملاذا لكل المضطهدين في المنطقة، خاصة أولئك الذين يتعرضون إلى حملات الإبادة الجماعية بسبب دينهم أو مذهبهم أو عرقهم، حيث شهد العالم باجمعه التجاء مئات الآلاف من المسيحيين والشيعة والسنة والصابئة والايزيديين إلى أحضان بلد يتكفل بحمايتهم ويتقاسم معهم لقمة الخبز وهو في ضنك العيش بسبب حصار بغداد له منذ ما يقرب من سنة.
وأخيرا لم يهب العالم المتمدن إلى دعم ومساندة مسعود بارزاني وشعبه وقواته إلا لأنهم أدركوا هذه الحقائق وامنوا بأن كوردستان جزيرة للسلوك القويم والأخلاق الرفيعة، وان سر انتصار الكورد وكوردستان يكمن في عدالة قضيتهم وإن قادتهم يحاربون كمقاتليهم في الخطوط الأمامية ضد الإرهاب والتخلف والهمجية لحماية الإنسان والحضارة.
كوردستان بخير وازدهار يكللها الأمن والسلم الاجتماعيين، ولن تستطيع عصابات شاذة قادمة من خارج الزمن والحضارة، ومن عفونة العنصرية والشوفينية، إيقاف نهوضها وتقدمها أو تمزيق نسيجها وتعايشها.