ليس ثمة مفهوم اجتماعي أسال من مداد الكتاب والباحثين وسوّد من صفحات بحوثهم ودراساتهم مثلما حظي به مفهوم العلمانية هذا ، ليس فقط على سبيل التحليل والتأويل والتأصيل فحسب ، وإنما كذلك لجهة التقريع والتشنيع والتبديع ، ومع كل ذلك استمر يطرح من التساؤلات والإشكاليات أكثر مما يقترح من الخيارات والمعالجات ، فلماذا ؟ . الواقع حين نطلق صفة (الإشكالية) على هذا المفهوم – أو أي مفهوم يوازيه في الاستشكال – لا نروم له (التعميم) و(التمديد) ، بقدر ما نقصد به (التخصيص) و(التحديد) ، أي بمعنى انه مفهوم واضح المعنى وجليّ الدلالة في البيئة الحضارية التي تبلور فيها وصدر عنها ، ولكنه لا يلبث أن يدخل منطقة (الاستشكال) حالما يجري تلقفه وتبنيه – بدون مقدمات ولا تمهيدات – من قبل بيئات حضارية أخرى مغايرة ، غالبا”ما تفتقر إلى مظاهر الانفتاح الثقافي على الآخر ، والتلاقح الحضاري مع الغير ، والمرونة الفكرية مع المختلف .
ولهذا نجد إن المجتمعات الغربية التي نحت مفهوم العلمانية من قبلها وأشيع في بيئتها ، تعاملت معه من منطلق كونه يحمل معاني خاصة ويوحي بدلالات معينة ، غير تلك المعاني والدلالات التي سيتم تضمينها إياه لاحقا”حين جرى استقدامه وتداوله في حاضرة المجتمعات الشرقية على سبيل المثال لا الحصر . ففيما أضفت عليه المجتمعات الأولى طابع (الدنيوية) و(العالمية) ، باعتباره يصف ظواهر شائعة تتصل بالشؤون الإنسانية ؛ السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية ، التي يمكن رصد أنماطها وتشخيص مؤثراتها في أكثر من مكان وزمان . نجد أن المجتمعات الثانية سارعت – بوحي من ذهنياتها المشبعة بالروحانيات – إلى تضمينه إيحاءات (دينية) و(لاهوتية) ذهبت به مذاهب شتى ، على وفق ما في الدين من مذاهب متنوعة وطوائف متعددة ، وبحسب ما في اللاهوت من فلسفات إيمانية ونظريات هرطوقية .
وآية ذلك إن الدين في الحالة الأولى تم – في خضم التجارب والممارسات – تأطيره في سياقات حضارية معينة وأنساق ثقافية خاصة ، بحيث لم يعد له من سلطة يدعيها إلاّ في إطار الشؤون الروحية للفرد أو الجماعة ، بعد ما كان – إبان العصور الوسطى – يتمتع بسلطان مطلق يسري تأثيره على كافة الأنشطة والفعاليات التي يمارسها الإنسان والمجتمع على حدّ سواء . هذا في حين جعل الدين في الحالة الثانية بمثابة (المعيار) و(المقياس) الذي من خلاله تلتمس تلك الأنشطة والفعاليات قيمتها الاجتماعية وشرعيتها السياسية ، من منطلق إن الأحكام الدينية والضوابط الشرعية لا تسري فقط على شعائر العبادة الروحية وطقوس الفروض التأملية فحسب ، بل وتطال كذلك شؤون الممارسة الدنيوية بكل ما تشتمل عليه من تعاملات وعلاقات وتصورات وسلوكيات . وهو ما يؤكد وجود حقيقة تاريخية راسخة ضمن تقاليد المجتمعات الشرقية ، كان أحد أعلام الاستشراق الغربي (ساباتينو موسكاتي) قد لاحظها وكتب عنها الآتي (( في المقام الأول هناك الدين الذي يسود خلال كل وجه من الحياة . وما هو أكثر ، هو أن كل وجه من وجوه الحياة تتم صياغته وحركته متوائما”مع الدين . إنها وحدة الإيمان الديني ، هي التي تبرز أيضا”وأيضا”كمحرك يسود حضارات الشرق )) .
ولأن (البنية التحتية) لمجتمعات بلدان العالم النامي / الثالث في معظمها ذات طابع بطريركي / زراعي ، الأمر الذي يجعل من العامل الديني الممزوج بالتصورات الأسطورية والثقافات الفلولكورية ، بمثابة (بنية فوقية) تحتكم إليها تلك المجتمعات في تعاطيها مع النظريات والفلسفات التي تفسر قوانين صيرورات الكون والمجتمع والفكر ، ناهيك عن اضطرارها – بسبب تخلفها العلمي وقصورها المعرفي – لاستخدام المفاهيم المقتبسة والمصطلحات المنتحلة المعنية بتلك الفلسفات والنظريات . بحيث لا تلبث أن (تروحنها) و(تأمثلها) حتى وان كانت من طبيعة اجتماعية وتاريخية صرفة ، اعتقادا” منها بان هذه الطريقة الملتوية كفيلة بإضفاء قدر لا بأس به من غطاء المشروعية الحضارية والمقبولية المعرفية ، ومن ثم منحها وهم الإحساس بالمشاركة في الخلق الذاتي والإبداع المحلي . وهكذا فقد حصل انزياح دلالي لمفهوم العلمانية من كونه يعني (العالم) المناهض لكل ما يوحي بالسرديات الاصطفائية والإيديولوجيات الواحدية ، التي غالبا”ما تفضي إلى الكراهيات والصراعات ليس فقط بين المجتمعات المختلفة الثقافات والحضارات والمتباينة السياسات والإيديولوجيات فحسب ، بل وحتى بين أفراد وجماعات المجتمع الواحد أيضا”. إلى معنى (العلم) المناهض للعقائد اللاهوتية والفلسفات الميتافيزيقية ، بحيث إذا ما تم استدعاء هذا المفهوم ليطبق في مضمار السياسية ، تكون الدولة قد كشرت عن أنيابها ضد الدين وأظهرت السلطة عدوانيتها ضد المقدس ، بعد أن يكون قد أجهز على حرية الرأي وقضى على خصوصية المعتقد . وإذا ما أردنا له أن يلج حقل الاجتماع ظن انه سيكون بمثابة معول يقوض الأخلاق ويهدم القيم ، بعد أن يكون قد زج الإنسان في متاهة من الشك والعدمية . وإذا ما سعينا إلى مقاربته للتاريخ اعتقد بأنه سيمحو هالة الهيبة إلى تحيط بقصصه وسيروراته ، وينزع من ثم غطاء الاعتبار الذي يجلل هامات رموزه ، بعد أن يكون قد أمعن بتشويه الماضي وأسرف في مسخ التراث . وإذا ما توخينا اعتماده في ميدان الثقافة ، أشيع انه سيفسد الفكر ويحرف الوعي ، بعد أن يكون قد قمع التنوع الثقافي وفرض الواحدية الإيديولوجية ! .
من هنا نفهم سبب شيوع نظرة الازدراء لمفهوم (العلمانية) في مجتمعات بلدان العالم الثالث ، فضلا”عن التوجس والحذر حيال كل ما يمت له بصله ، سواء في إطار الخطابات التي تتصدر الإيديولوجيات الراديكالية ، أو في مجال السياسات التي تنتهجها الحكومات الدكتاتورية ، نظرا” للشحنة التي يتم تحميله إياها من المعاني المحرمة دينيا” والدلالات الممنوعة سياسيا”. فعلى الرغم من الطابع (التقدمي) الذي أسبغته على نفسها معظم تلك الأحزاب (المتأدلجة) يمينا” ويسارا”، التي تزعمت – عقب مرحلة ما سمي (بالاستقلال) عن الهيمنة الكولونيالية – حراك الجمهور المجيش وتسيدت وعيه المشوش . إلاّ أنها وبحكم أصولها الاجتماعية الرثة وطبيعة ثقافتها الهجينة ، لجأت إلى مفهوم العلمانية من باب كونه أمضى الأسلحة (الحداثية) لمحاربة ما اعتبرته أساطير الدين وخرافات التدين ، بدلا”من أن تمضي باتجاه استئصال شأفة مظاهر التخلف الاجتماعي ، التي هي من أبرز عوامل استحالة ليس فقط الدين والتدين إلى مجرد شعائر تتلى وطقوس تمارس فحسب ، بل وكذلك التاريخ إلى طوبى والأخلاق إلى فوضى . أما فيما يتعلق بموقف الدول ونمط ممارساتها إزاء ذات المفهوم (العلمانية) فالأمر يبدو أكثر تشنجا” وأشدّ حساسية ، على خلفية الدعاوى السائدة في مضمار الثقافة الشعبية العامة ، المتضمنة ترويج فكرة إن تطبق مفهوم العلمانية في مجال السياسية لابد أن يفضي إلى فصل الدين عن الدولة وإبعاد المقدس عن المدنس ، وبالتالي حرمان السلطة من أهم دعاماتها الإيديولوجية
وأبرز مؤسساتها الرمزية ، الموكول إليها ليس فقط إضفاء طابع الشرعية الوطنية والمشروعية القانونية على ممارسات تلك السلطة فحسب ، وإنما تعزيز وجودها وتثبيت أركانها وتعظيم هيبتها كذلك .
وعلى أساس إن لكل فعل ردّ فعل مواز له في القوة ومعاكس له في الاتجاه – كما تنص قوانين الفيزياء – فانه بقدر ما يشكل مفهوم العلمانية تهديدا” لمصالح وأهداف هذا الطرف أو ذاك ، بقدر يعتبر رفض مبادئه وتشويه قيمه والتحذير من مغبة التعاطي مع معطياته ، من أولويات تلك الأطراف المعنية أو الجهات المقصودة . وهكذا فان (المجتمع) يرفض العلمانية ليس لأنها – من وجهة نظره – تريد أن تجعل للشأن الإنساني دورا”في حماية المصائر من طغيان الشموليات السياسية والإيديولوجية من جهة ، وتنقية السرائر من استشراء نوازع العصبيات والكراهيات من جهة أخرى ، ولكنه يرفضها من منظور كونها تحارب الدين الذي يعتنقه وتقلل من قيمة المقدسات التي يبجلها . هذا في حين إن (الدولة) تتحاشى العلمانية – وان كانت في بعض الظروف والفترات تتبناها اسميا”لا فعليا”- لأنها تستهدف من جملة ما تستهدف – بحسب معيار أصحاب السلطة (الحكام) – أحد أهم الركائز التي تعتمدها لتثبيت كيانها وبسط سلطتها وإشاعة هيبتها ، ألا وهي السلطة الرمزية الرابعة (الدين) التي تشكل مع بقية السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) عماد كيان الدولة ومصدر سيادتها ، هذا بالإضافة إلى مردود توظيفها (لفكرة القوة) بكل مظاهرها و(قوة الفكرة) بكل تجلياتها . دون أن تأخذ بالاعتبار الدلالات الحقيقية لمفهوم العلمانية ، الذي يفيد بأنه لا يستهدف استبعاد الدين عن السياسة (لذاته) كدين ، ولا يسعى لفصله عن الدولة لمجرد كونه يهتم بالأمور الماورائية / الغيبية . إنما هو يتوخى في الحالة الأولى تجنيب السياسة الخوض في غير أمورها الخلافية والعبث في غير مجالها التنافسي ، مثلما يريد للدين أن يحافظ على طهارته من دنس المصالح الفئوية ويصون نقائه من هوس النوازع البشرية . كما انه يروم في الحالة الثانية حمل الدولة على حصر اهتمامها بالشؤون العامة لجميع المواطنين ، دون التورط في الأمور الخاصة المتعلقة بمظاهر التعدد الديني والتنوع المذهبي التي لا يخلو دين من وجودها ، في ذات الوقت الذي يمنع فيه التداخل والتخالط ما بين غايات الدولة وأهدافها الدنيوية من جهة ، وبين غايات الدين وأهدافه الأخروية من جهة أخرى . وذلك من منطلق تجنيب الدولة عواقب الانخراط بالمحرّم (المقدس) الإلهي ، وتنزيه الدين من مثالب التورط بالمجرّم (المدنس) البشري .
وهكذا ما لم تحل مسألة الاستشكال المصطنع حيال مفهوم العلمانية ، ويعاد النظر بنمط الدلالات التي كونها تفكيرنا عنه ، وطبيعة الايحاءات التي استبطنتها سيكولوجيتنا حوله ، فان كلا من الدولة والمجتمع سيفوتان على نفسيهما الكثير من الفرص والمناسبات ، التي يمكن لهذا المفهوم – إذا ما فهم القصد منه وأحسن التعامل معه – أن يقدمها لهما كل في إطاره ومضماره . لاسيما وانه يشترط – لكي يعطي أكله – أن تنأى الدولة بنفسها عن الانخراط في مصالح الخاص دون العام ، الحزب الأوحد دون المجتمع الواحد ، العرف العشائري دون القانون المؤسسي . وان تنتهج نهجا”مدنيا”ليبراليا”موحدا”وفق مبدأ المواطنة ، لا أن تتجه اتجاها”دينيا” يفاضل ما بين الأفراد على أساس انتماءاتهم المذهبية / الطائفية ، أو تتبنى منظورا”قوميا”يميز ما بين الجماعات على أساس ولاءها القومي / الاثني . كما انه يستلزم – لكي يحقق الغاية منه – ألاّ يزجّ بالدين في متاهات السياسة واستقطاباتها بحيث يستحيل إلى عامل تفريق لا توحيد ، ولا
يقحم في دوامات السلطة وصراعاتها بحيث يؤجج مشاعر الكراهية المتبادلة ويصعّد موجات العنف البيني . إنما ينبغي أن يحتكم إلى شريعة المبدأ القائل : إن الدين لله والوطن للجميع .